الدكتور
عبد اللطيف جمال رشيد
تشرين ثاني 2016
 
      يمر العراق منذ سقوط النظام السابق بالعديد من الأزمات السياسية والإقتصادية والإدارية والإجتماعية والتي عمت معظم مرافق الحياة، ووصلت الى حالة باتت تهدد مجمل العملية السياسية جرّاء تداعياتها الخطيرة على الأوضاع المعيشية والأمنية للمواطن العراقي. ومن الضروري أن نشير الى بعض الأسباب الأساسية التي أدت الى إستفحال تلك الأزمات وبقائها بلا حلول؛ في مقدمتها مسألة المحاصصة التي بنيت على أساسها العملية السياسية في العراق. فهذا الأسلوب الفاشل بإدارة الدولة تحت ذريعة تحقيق التوافق الوطني، أفرز الفرقة بدل التوافق بين المكونات العراقية، فالصراع على السلطة من قبل الذين مثلوا المكونات أدّى الى أن يعمل الكل وفقاً لمصلحة حزبه أو طائفته، وهذا خلق نوعا من التصادم بينها جرّ معه تدخلات خارجية وإقليمية أثرت على إرادة العراق السياسية، ومازال الصراع تتجاذبه المصالح الإقليمية ما أدى الى انعدام الثقة بين معظمالأطراف السياسية وحال دون إستقرار البلد وبناء نظام ديمقراطي.
 
    من الناحية الإقتصادية ورغم الإمكانيات المادية للعراق كدولة نفطية غنية وزراعية مع كافة الإمكانيات الأخرى، تراجع الوضع الإقتصادي بنسبة كبيرة؛ بسبب الفساد وعدم وجود خطة اقتصادية مفصلة وواضحة وإدارة جيدة، وهو ما عمّ أغلب مرافق الدولة، فهدرت مئات المليارات وذهب جزء كبير منها الى جيوب بعض التجار السياسيين وقيادات الأحزاب، وتراجعت مشاريع التنمية الحقيقية والخدمات، وفشلت جهود التحول الإقتصادي، فبات الكثير من المواطنين على عتبة الفقر في واحدة من كبريات الدول النفطية.
  
   أما من الناحية الإدارية فقد كانت إدارة الدولة وفقاً لصيغة المحاصصة التي تم تجميلها بمصطلح التوافق السياسي؛ وهو مصطلح غير موجود على أرض الواقع أدت الى تعيين أشخاص غير مناسبين لإدارة شؤون الدولة الإدارية، وساهم ذلك بتفاقم الفساد الإداري من خلال سيطرة مجموعة من المسؤولين غير المؤهلين لإدارة الدولة مقابل إهمال العناصر الكفوءة رغم حاجة العراق الجديد الى أصحاب الكفاءات والخبرات قبل حاجتها الى قادة ورؤوساء أحزاب وجماعات.
 
    ومن الناحية الإجتماعية، فقد خلف الإرهاب والصراعات الطائفية التي شهدها العراق خلال السنوات الثلاث عشرة السابقة جيشاً من الأرامل واليتامى دون أن  تتمكن الدولة من إستيعابهم أو توفير الحياة الكريمة لهم، وأثّر الوضع الإقتصادي المتدهور وفشل التنمية على الجانب الإجتماعي في العراق دون التمكن من إيجاد الحلول المناسبة.
   كل هذه الإخفاقات وفي شتى المرافق أدى الى زيادة أطماع أعداء العراق والسعي لإفشال العملية الديمقراطية الناشئة من خلال التدخلات السافرة في شؤون البلد دون رادع قوي من المكونات العراقية التي أصبح قسم منها وللأسف أداة بأيدي اولئك.
 
   وعلى الرغم من تشكيل عدة حكومات وبعناوين مختلفة خلال السنوات الماضية، لكن  لحد الآن لم تظهر حكومة قوية قادرة على إدارة شؤون الدولة كما يجب؛ من أجل وضع حد للتدهور الحاصل في مختلف المجالات، فقد كان بعض المسؤولين يراعون مصالح فئة معينة ويعملون على صفقات متبادلة للإستحواذ على الثروة وتمشية الأمور دون الإلتفات الى مصالح الشعب، فأصبحت العلاقات بين بعض القوى السياسية تتحكم بها الصفقات وعقود الشراكة.
 
   فلو أخذنا الثروة النفطية وهي الثروة الكبيرة الرئيسة التي تستند إليها موازنة الدولة، سنجد بأن هناك جهات محددة تتصرف بها. فبالرغم من أن الدستور العراقي ينص على أن النفط هو ملك للشعب العراقي؛ لكن الحكومة المركزية وخلال السنوات الثمان السابقة، غضت الطرف عن عدد من المسؤولين في حكومة إقليم كردستان عن إستحواذ جهة معينة داخل حكومة الإقليم على عمليات تصديره والتصرف بعوائده على مرأى ومسمع من الحكومة الإتحادية التي لزمت جانب الصمت المطبق تجاه هذا الخرق الدستوري الفاضح وبدون علم البرلمان. وإكتفت كردّ فعل على هذا التصرف بقطع حصة إقليم كردستان من الموازنة؛ وهذا ما جر كارثة كبرى على الشعب الكردي بإفقاره وقطع رواتبه من دون أن يقدم هذا الإجراء حلاً موفقاً لإستئثار تلك الجهة بالثروة النفطية بكردستان.
 
    إن الحكومة الإتحادية تدرك جيداً بأن بعض الاطراف السياسية في كردستان سوف لن تتخلى عن سياساتها الإنفرادية بمجال تسويق النفط الكردي، وهي تعلم جيدا بأن هذه الأطراف لن تسمح بتسيلم نفطها الى بغداد ولا تتصرف به بما يوافق الدستور العراقي، ولذلك فإن المطلوب هو البحث عن بدائل أخرى لحل المشكلات الناجمة عن صراع الإقليم والمركز حول النفط، وأعتقد بأن الحكومة الإتحادية من الممكن لها - إذا تهيأت لها الإدارة الجيدة - أن تحل مشكلة النفط مع إقليم كردستان، وبالتالي تحل جزءاً من الأزمة المالية المستفحلة، والتي وصلت الى حد تجويع شرائح مختلفة من الشعب الكردي .
 
    فعلى الرغم من أن الأزمة المعيشية الصعبة وصلت الى بيت كل مواطن في كردستان، وعلى الرغم من مظاهر الإحتجاج واسعة النطاق التي تشهدها مدنها، والتي وصلت الى حد إعلان الإضراب الشامل وتعطيل مصالح الناس، وكذلك توقف عملية التعليم بسبب إضراب المعلمين، وإرتباك أوضاع الأغلبية الغالبة من الموظفين والمواطنين، وعلى الرغم من إستمرار هذه الأزمة المالية لأكثر من سنتين بسبب سياسة النفط المستقلةالفاشلة، فإن المسؤولين الكرد في بغداد وأربيل لم يحركوا ساكناً للقيام بواجباتهم الأساسية في تمثيل الشعب الكردي في المركز؛ فمن صلب واجباتهم أن يدافعوا عن حقوق المواطنين التي نص عليها الدستور العراقي، وكذلك كان واجباً بحث هذه المشكلة مع الرئاسات الثلاث لكي يتم الإسراع بإيجاد الحلول للكارثة المالية في كردستان.. وحتى المسؤولين والوزراء الكرد في الحكومة الإتحادية وحكومة الاقليم - باستثناء بعض النواب -لم يقوموا بواجبهم الأساس في حل هذه المشكلة ويتحملون بدورهم مسؤولية التدهور الحاصل في الإقليم. فلم يقم - معظمهم - بأي دور لحث الحكومة الإتحادية على إنهاء الحظر المالي على كردستان، وكأن المناصب التي يحتلونها جاءت لهم هبة من السماء وليس على أساس أصوات الشعب الكردي الذي إختارهم ليدافعوا عن حقوقه الدستورية. وكل ما نسمعه من حين الى آخر هو تصريحات بعض المسؤولين في الإقليم بأنهم مهتمون بمعاناة الشعب الكردي وأن المشاكل المادية سوف تحل بدون أن يقدموا أية تفاصيل أو إبداء الجدية في الموضوع وهي تصريحات لا يتعدى تأثيرها شاشات التلفاز.
 
   مع غياب الدور الكردي لحل الأزمة المالية في كردستان فمن واجب الحكومة الإتحادية أن تراعي مصالحهم وتوفر لهم سبل العيش الكريم والإستفادة من موارد الدولة. فليس معقولا أن تعاقب السلطة الإتحادية شعب إقليم كردستان بسبب رغبة طرف سياسي معين للإستحواذ على مقدراته، فكما أن لبعض المحافظات غير المنتجة للنفط الحق وكل الحق في الإنتفاع من خيرات البلد وأن يستلم موظفوها رواتبهم الشهرية دون زيادة أو نقصان؛ يحق لمواطني محافظات كردستان أيضا أن ينتفعوا من أموال الدولة وفقا للدستور. لنفترض أن حكومة الإقليم لم تتقدم بخطوات لحل مشاكلها العالقة مع بغداد وإمتنعت عن الإلتزام بأي إتفاق نفطي مع الحكومة المركزية كما فعلت لحد الان، فهل يعقل أن يترك مواطنو الإقليم برمتهم أسارى بيد هذه السياسة الإقتصادية القاتلة؟ إن الحكومة الإتحادية تمثل العراق بمجمله، ورئيسه هو رئيس وزراء لجميع محافظات العراق وعليه أن يؤدي دوره وفق الدستور، لا أن يترك مصير شعب بأكمله تحت يد حزب واحد أو جهة معينة تتلاعب به، فلا يجوز حصر علاقة المركز بالإقليم بشخص أو زعيم حزب سياسي واحد. بالنسبة لإقليم كردستان الذي يعاني اليوم من أكبر مشكلة إقتصادية بسبب قطع رواتب موظفيها وتوقف حركة أسواقها، يفترض بالحكومة الإتحادية أن تبادر فوراً بمعالجة تلك الأزمة من خلال النقاط التالية:
 
 - إعادة إقرار حصة إقليم كردستان من موازنة الدولة الإتحادية وتأمين رواتب موظفيها وتخصيص الأموال اللازمة لمشاريع الخدمات، وذلك عبر إعتماد الصيغة المقترحة بدفع حصة الإقليم على أساس حصص المحافظات، وتكون هذه الحصة ثابتة على الأقل فيما يتعلق برواتب الموظفين ومشاريع الخدمات الضرورية.
 -إستعادة السيطرة على نفط كركوك بإعتبار كركوك مازالت مرتبطة بالحكومة الإتحادية، والتصرف بثروتها النفطية بما يتوافق مع الدستور، وتخصيص جزء من موارد نفط المحافظة لأبنائها ضمن إطار مشروع البترودولار، وتسويق نفط المحافظة عبر الشركات الحكومية الإتحادية.
 - تفعيل دور الحكومة الإتحادية في إيجاد الحلول للأزمات السياسية التي يشهدها إقليم كردستان فليس معقولا أن تتدخل دولة كتركيا في شؤون الإدارة والإقتصاد بالإقليم حتى تتجرأ بأن تطالب بدور لها في معركة تحرير الموصل وهو شأن عراقي خالص، وتقف الحكومة الإتحادية المسؤلة وفق الدستور عن جميع أنحاء العراق عاجزة تجاه مسألة كبيرة مثل تعطيل البرلمان الكردستاني. وليس معقولا أن تقف الحكومة الإتحادية وهي المسؤولة عن تنفيذ الدستور موقف المتفرج الصامت تجاه إتفاق نفطي بين إقليم كردستان وتركيا والذي يهدر ثروة العراق.. وكان يفترض بالحكومة الإتحادية أن تتدخل بشكل مباشر في مسألة إنتهاء ولاية رئيس الإقليم التي أفرزت مشاكل في كردستان وأوصلها الى حافة الإنهيار، كما كان عليها أن تتدخل عند تعطيل البرلمان وطرد الوزراء، وأن تتدخل لدى المحكمة الإتحادية لحسم الخلافات النفطية ووضع حد لإستئثار جهة معينة بتلك الثروة المملوكة للشعب العراقي.
 
    هذه مجمل الأمور التي يفترض بالقادة العراقيين أن يعيدوا النظر فيها وأن يستعيدوا زمام المبادرة لحل مشاكل البلاد بما فيها مشاكل إقليم كردستان المستفحلة، حتى لا يأتي يوم ينفرط فيه عقد الشراكة والأخوة التي نص عليها الدستور الذي وافق عليه العراقيون بأغلبيتهم المطلقة.