كلمة د. عبد اللطيف جمال رشيد / المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية ووزير الموارد المائية الأسبق في مؤتمر بيروت عن الإقتصاد الإقتصاد العراقي (مناقشة الإستراتيجية الإقتصادية العامة: ميزانيات الدولة - وضع الإقتصاد النفطي - القطاع المصرفي - الآثار الاجتماعية الاقتصادية)
لبنان – بيروت
للفترة من 30 - 31 آذار 2015
السيدات والسادة الحضور..
طابت أوقاتكم .. اسمحوا لي أن أحيي الأخ والصديق الدكتور فالح عبدالجبار والسادة المسهمين في هذا المؤتمر والمشاركين في أعماله لأهمية مثل هذه الفعاليات أولاً وللقيمة العملية ثانياً للجهود المبذولة في مجال الإعداد والتنظيم وفي مجال البحث الجاد والرصين الذي يهدف إلى التشخيص والبحث عن حلول.
وفي الحقيقة فإن إقامة هذه الفعالية في ظرف مثل هذا الظرف الذي يواجه فيه العراق تحدياً مالياً واقتصادياً خطيراً فإن المهمات التي من المفروض أن يضطلع بها ذوو التخصص والخبراء والباحثون والمفكرون هي مهمات كبيرة وأساسية في فحص وتشخيص أسباب الأزمات وفي اقتراح الحلول على السلطات ودوائر الدولة المختصة.
لكن مسؤولية هذه السلطات تظل هي الأكبر, فهي مطالبة بالإصغاء وباستشارة رجال ومؤسسات التفكير الحر والإفادة من الخبرات والمقترحات وقبول النقد مهما كان قاسياً من أجل تقويم المسارات وتصحيح السياسات وتعديل الخطط، وذلك إذا كانت هناك طبعاً خطط وسياسات. ومن المؤسف أن كثيرا من مؤسسات الدولة ليس في القطاع المالي والإقتصادي فقط وإنما أيضاً في مختلف المجالات تظل تعاني من مشكلة الإنغلاق على مراكز الدراسات والمنظمات والمؤسسات المدنية القريبة في عملها من عمل الوزارة والقطاع المختص وعدم الإفادة من جهود هي أحوج ما تكون إليها.
وواقعاً فإن السبب الرئيس في ما نواجه حاليا من تحديات أزمة تأثير هبوط أسعار النفط على مجمل الوضع المالي والاقتصادي للبلد (وحتما تتأثر المجالات الأخرى بذلك) هو في غياب وانعدام التخطيط القائم على رؤية علمية وخبيرة وهو في اعتماد السياسات التنفيذية القائمة على الارتجال وتمشية الأمور من دون أدنى تحسب وشعور بالمسؤولية إزاء قيمة التفكير العلمي الذي يأخذ بالحسبان دينامية الخيارات المعاصرة في بناء الاقتصادات وفي تسيير أنظمة إدارة الدولة بطرق منهجية وبخيارات ستراتيجية. وكل هذا هو نتاج لتغييب روح العمل المشترك مع الخبرات والكفاءات والإرتهان إلى منطق التفكير المتخلف.
سنلاحظ مثلا أن القطاع المالي في العراق نجح في جوانب كثيرة خلال هذه السنوات وليس من الصعب أن نعزو النجاحات فيه إلى وجود خبرات وكفاءات وطنية متطورة ظلت توجه هذا القطاع برغم المعوقات وبرغم الخطوات البطيئة وغير الطموحة للقطاع المصرفي الخاص وبرغم مظاهر الفساد التي لم يتحرر منها قطاع من قطاعات الدولة الكثيرة.
السيدات والسادة الحضور..
في مواجهة مشكلات الاقتصاد العراقي، وبعد هذه السنوات على سقوط النظام الشمولي الدكتاتوري، سيكون من العبث أن نظل نعزو الفشل والمشكلات إلى النظام الدكتاتوري البائد مع كل خطورة ما فعل بالاقتصاد والمال وأنظمة وهياكل ومؤسسات الدولة الأخرى لكن مواصلة التبرير بهذا بعد هذي السنوات هو تعبير عملي عن فشل وعجز عن فعل اي شيء كان يمكن فعله فيما لو أردنا فعلا أن نعمل بحرص وبمسؤولية.
لكن التبرير بمشكلات الأمن وتحديات الارهاب هو الآخر تعبير عن فشل وعجز واضحَين.
مَن يريد أن يعمل لا ينشغل بالمبررات إلا من أجل تحديها وتجاوزها.. وإلا فإن مواصلة التشكي واعتماد التبريرات هو تعبير صارخ عن فقدان مفاتيح الحل.
ومفاتيح الحل هي في تفكير علمي رصين يشعر بالمسؤولية ويعمل من هذه الأزمة مناسبة لخلق الحلول والعمل على بناء اقتصاد حر ومتطور لا يتوقف عند حدود الاعتماد على النفط وإنما يجعل من عائدات هذه الثروة هامشاً تحت متن قوي ورصين من مصادر أخرى للمال، وما أكثرها حين تخلص النيات وحين تكون مقاليد الأمور بيد العقل والحكمة والخبرة.
ومن هنا يتعين على القائمين بأعباء المسؤولية الرئيسة وضع الهدف الأهم وهو بناء الدولة الحديثة نصب أعينهم, وأهم أركان هذه الدولة هو ضمان احترام الحريات لكافة فئات الشعب والعمل على تثبيت الأمن والإستقرار وسيادة حكم القانون الذي ينبغي أن يتساوى أمامه الجميع, وكذلك بذل أقصى الجهود لإقامة البنى التحتية وتقديم الخدمات المرتبطة ارتباطاً مباشراً بحياة الناس اليومية وخصوصاً في قطاعات التعليم والصحة فضلاً عن توفير السكن الملائم والطاقة والماء الصالح للشرب وغيرها, وهي شروط أساسية لرفاهية المجتمع بغية تطويره إقتصادياً واجتماعياً.
لذا نجد من الواجب على الدولة إبداء الإهتمام اللازم بدراسة ومعالجة الأسباب الكفيلة بهدف تحريك عجلة التنمية والنهوض بالواقع الإقتصادي وإدارة الإيرادات المالية, خصوصاً لما لها من مباشر على المركز والإقليم وبقية المحافظات .. وفي هذا الصدد نشير الى عدة نقاط نرى أنها ستسهم في تحسين الوضع المالي والإقتصادي:
1- العمل على تشريع قوانين جديدة تناسب المرحلة الراهنة التي تمر بها البلاد وفي نفس الوقت إلغاء الكثير من القوانين الروتينية القديمة التي تتسبب في عرقلة حركة الإستثمار والبناء وذلك بهدف الإسراع في إنعاش الوضع الإقتصادي.
2- قيام الدولة بوضع سياسيات مالية قصيرة ومتوسطة المدى بالتعاون بين مؤسسات الدولة وبين الكفاءات ذات الإختصاص من الخبراء والمستشارين.
3- الإسراع بتشريع قانون النفط والغاز بعد إجراء دراسة شاملة يتم بها الإستعانة بآراء الخبراء والمستشارين والخروج برؤية ستراتيجية واضحة تضمن المحافظة على ثروة النفط من خلال إستثمار إيراداته المالية بصورة تضمن حقوق الشعب للجيل الحالي وللأجيال القادمة كذلك.
4- الإتفاق الشامل والكامل بين المركز والإقليم وكذلك بقية المحافظات على السياسة المالية والإقتصادية والنفطية وبحسب ما نص عليه الدستور بشكل يتحقق فيه مبدأ العدالة الإجتماعية وتوزع الإيرادات المالية فيه بين الجميع بالتساوي ويتم تثبيت ذلك في ميزانية الدولة سنوياً.
5- القيام بدراسة جدية حول الأخطار الممكنة على الموارد المائية والوضع الزراعي في العراق من أجل النهوض بها القطاع المهم وتعزيز الإنتاج الزراعي بشكل نضمن معه الأمن الغذائي ويقلل من حاجة البلاد الى الإستيراد من بقية الدول.
6- دراسة وضع الإيرادات المالية بصورة تفصيلة وواقعية وكيفية إنفاقها من قبل الحكومة والجهاز التنفيذي وإعلان بنود الميزانية حسب خطة مدروسة بتوزيع صرفياتها وأبواب النفقات فيها.
7- تحسين الوضع الأمني والإرتقاء بالمستوى الخدمي والمعيشي للمواطن.
8- منع المسؤولين من التصرف الكيفي بالمال العام والممتلكات العامة للدولة.
9- اعتماد الكفاءة والمهنية كشرطٍ أساس لتولي المسؤوليات والمناصب المهمة في إدارة الدولة بالتوازي مع محاربة الفساد ومعالجة جذوره والعمل الجاد على مكافحة جميع صوره المالية والإدارية والثقافية أينما وجد.
10- تعزيز موارد الدولة المالية داخلياً بوضع دراسة شاملة وواقعية للضرائب على المواطنين وكذلك على الشركات المحلية والاجنبية فضلاً عن المستثمرين.
11- النهوض بواقع القطاع المصرفي العراقي وتفعيل دوره في دعم التنمية الإقتصادية.
إن ما تقدم من رؤى وأفكار تحتاج الى برنامج عمل حكومي حقيقي ينهض به المسؤولون ويعملون على تنفيذه, وإلا فبدون الإجراءات التنفيذية السريعة والمباشرة ستبقى جميع هذه التوصيات مجرد تقارير تشخص مكامن الخلل في الهيكل الإداري والتنفيذي للدولة دون أن تحظى بفرصة التطبيق وبالتالي الشروع بعملية تنمية حقيقية.
ختاماً .. نأمل في أن تكون نتائج هذا الجهد الذي تضطلعون به جسراً حيويا يفيد في خلق تقاليد عمل جديدة توصِل ما بين العمل البحثي والفكري وبين متطلبات حياتنا وبنائنا للدولة الديمقراطية الحرة والراسخة في نظامها الإقتصادي والسياسي والثقافي.
شكراً جزيلاً