د. عبد اللطيف جمال رشيد

المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية

وزير الموارد المائية الأسبق

 

 

في جانب أساسي من المشكلات بين حكومة إقليم كردستان وبين المركز أن معظمها لم يكن من نتاج اليوم. ومن الصحيح القول أنها تضخمت مؤخراً وتفاقمت إلى الحد الذي وصلت إليه.

ويمكن لأي متابع أن يشخص جانبا من العوامل التي جعلت الأزمة تصل إلى ما وصلت إليه من طبيعة تبعث على الأسى والأسف، وهي طبيعة تعيق التفاهم الذي ما زال ممكناً رغم ذلك، بل يجب أن يظل ممكنا ومتاحا، حيث لا حلول ولا نتائج ترضي الجميع من دون أن يتفاهم الجميع على أسس الشراكة الحقيقية والوحدة الوطنية والمصالح المشتركة.

يمكن أن نعزو بعض جوانب المشكلات إلى طابع عام يخص العملية السياسية واسلوب تصريف المشكلات فيها، وهو طابع عام لأن الطرفين, حكومة المركز وحكومة الإقليم, هما جزء اساسي في العملية السياسية ومساهمون عمليون وفعليون في صنعها وفي تقدمها وفي مشكلاتها أيضاً.

لقد كانت العملية السياسية من حيث هي عملية توافقية بشكل مبدئي أو تحاصصية كما هي بطبيعتها العملية الواقعية مدعاة لصنع ومواجهة الكثير من المعضلات التي كان يفرزها الواقع وتضع تحدياتها أمام المشاركين في العملية نفسها. وكان من اجراءات هؤلاء المشاركين العمل بمبدأ تأجيل المشكلات وإزاحتها إلى الأمام بدلا من البحث عن حلول سريعة تنهي المشكلة وتستأصل عوامل نموها وتفاقمها. وهذا التأجيل هو طبيعة يتحمل مسؤوليتها الجميع ولا تقع على عاتق طرف معين وذلك بفعل تركيبة العملية السياسية وبفعل الإجراءات التي كان تعتمد في المعالجة.

فمن الضروري أن يتم التوافق بين مكونات المجتمع على الشعارات السياسية التي يجب ان تصب في صالح الشعب وتلبي طموحاته والإهتمام بدور الجماهير وكذلك شعوب المنطقة ودراسة كل جوانب الأهداف السياسية سواءً كان شعارات أو مطلب حق تقرير المصير أو الإستقلال الذي هو حق من حقوق جميع الشعوب وخاصة شعب كردستان, وحتى في بعض الأحيان للكيانات الأخرى. ولكن حالة التشنج بين حكومتي الإقليم والمركز كان لها مع الأسف تأثير سلبي على الوضع الكردي بشكل عام, لذلك ينبغي أن ترفع الشعارات السياسية من قبل السلطة بشكل مدروس ومن قبل الأطراف السياسية والإجتماعية الرئيسة.

من المهم جداً أن يتم التوصل إلى تفاهم وطني بشأن قانون النفط والغاز الذي يشكل عدم تشريعه حتى الآن واحدة من أهم المعضلات الإقتصادية بين المركز والإقليم والمحافظات وايضاً في السياسة النفطية واقتصادها وعمليتها الانتاجية والتصنيعية. وهنا يجب الإشارة الى ضرورة اعتماد مبدأ الشفافية في السياسة العامة للدولة والسياسة النفطية خصوصاً وكما أشرنا سابقاً فإن النفط والموارد الطبيعية ليست ملكاً للحكومة أو شخص أو جيل بعينه بل هي ملك للشعب والأجيال كافة. كما يجب إقرار قوانين مدروسة من قبل مجلس النواب وبقية المؤسسات الحكومية حول ملكية الشعب لموارده المالية وبشفافية عالية.

في النظام الديمقراطي دائما ما يكون نقص التشريعات في أي حقل من حقول الحياة والعمل والعلاقات دافعا لمشكلات متوقعة وغير متوقعة ومقصودة وغير مقصودة، وكان تأجيل البت في هذا القانون المهم وفي بلد نفطي كبير مثل العراق من أسباب الأزمة في مجال النفط بين المركز والإقليم.

إنّ الإلتزام بتنفيذ المواد الدستورية المشرعة في الدستور والتي تخص مستقبل العراق هو من أوليات الواجب الوطني لكل العراقيين، وإن التأخير والتلكؤ في تطبيق هذه المواد سيكون السبب المباشر لمشاكل العراق وكما حصل مع المادة 140 وهي مادة حساسة كما يعرفها الجميع.

لا يمكن القاء اللوم في هذا التأخير على طرف سياسي أو حكومي بعينه، ولكن يمكن القول إن بعض الأطراف السياسية كانت تدفع باتجاه التأجيل. وكان يجري تعليل ذلك بالظروف الأمنية.

وواقعياً فإن فرص التفاهم بين المركز والإقليم في ظل هذه الأجواء كان مأمولاً لها أن تكون أكثر يسراً وسلاسة، ولكن كان يحصل ذلك فقط عندما يجري الفصل بين الخلافات السياسية الآنية (بين المركز والإقليم) وبين مشكلات ذات مساس بالدستور وبالتشريعات الناقصة أو المؤجلة.

إن حق تقرير المصير مقرٌ في الأمم المتحدة, وبالنسبة للشعب الكردي هو حقٌ قائم حتى من قبل تقسيم كردستان بعد الحرب العالمية الأولى, وشعارات الأحزاب الكردية وفي بعض الأوقات الأحزاب العراقية نادت جميعها بحق تقرير المصير, وأفضل مثال للوضع الكردي في العراق هو إسكوتلندا, مع العلم بأن السكوتلنديين يتمتعون بكافة الحقوق أما الحزب القومي السكوتلندي فهم يطالبون بالإستقلال.. والمشكلة الرئيسة لشعب كردستان في العراق هي الحكومات الديكتاتورية في المنطقة. وبرغم كل العقبات التي واجهت الإقليم في المراحل السابقة فإن الوضع في كردستان العراق وصل الى مرحلة أفضل مما كان عليه في أية فترة تاريخية أخرى من جميع النواحي السياسية والإقتصادية واحترام المكونات الأخرى وشعوب المنطقة المختلفة.

إن مشكلات التشريع وتطبيق القوانين والدستور لا تحل بغير اعتماد مبادئ الدستور بما هو عليه ما دام هو حتى الآن وثيقة وطنية مشرعة ديمقراطياً ومستفتى عليها.. ولعل أي خلل فيه أو نقص في مواده أو في التشريعات المكملة له لا يمكن حله وتجاوزه من دون عمل دستوري وديمقراطي وبآليات العملية الديمقراطية البرلمانية، بينما الخلافات السياسية يمكن تصريفها بآليات الحوار والصراع السياسي بمختلف أشكاله التي يسمح بها النظام الديمقراطي.

لا يمكن لأي طرف أن يعمل بمبدأ استثمار الأزمات لإحراج الطرف الآخر، ولا بد من إقرار حقيقة أنّ التفاهم الوطني المنطلق من الحرص على الوحدة الوطنية والشراكة باقتسام الخيرات وبمواجهة الشرور هو السبيل الوحيد لحل المشكلات والانطلاق نحو آفاق أكثر رحابة من الخانق الضيق الذي نضع أنفسنا فيه حيث تطوقنا المشكلات وتثقل علينا بكاهلها.