د.عبد اللطيف جمال رشيد
تشرين الثاني 2015
 
تثير التداعيات والتطورات الأخيرة في إقليم كردستان إمكانية فتح الكثير من الملفات دفعة واحدة، وهي ملفات متداخلة مع بعضها، كما أن طول تأجيلها سابقاً كان من الأسباب التي جعلتها تتفجر بهذه الطريقة.
لا يمكن مثلاً عزل مشكلات المال والاقتصاد عن المشكلات السياسية سواء داخل الاقليم أو بصلته مع الحكومة الاتحادية.
وحين تتداخل المشكلات وتدخل في خانق ضيق فإن الحراك الجماهيري يكون متوقعا حتما.
لا يمكن للجماهير أن يطول صبرها ولا يمكن لها أن تستمر بهذا الصبر حين تمس المشكلات السياسية والاقتصادية والإجتماعية قدراتها على المعيشة وعلى إدامة حياتها بكرامة وبأمان.
لقد مرّ الاقليم بفترة قاسية من العوز المالي خلال التسعينيات بعد تحرّر الاقليم من سيطرة الدكتاتور لكن الشعب حينها كان أكثر صبراً وتحملاً حتى من الطبقة السياسية وذلك لأنه كان مقتنعاً مبدئياً بقيمة ذلك الصبر وجدواه في مقاومة ضغوط الدكتاتورية الصدامية، فتحمل جرّاء ذلك الصبر الكثير.
الظرف الآن هو غير ذلك وإمكانات الإقليم هي غير تلك الامكانات التي كان عليها, ولذلك كان لا بدّ من توقع حصول تحرك شعبي ضاغط من أجل مطالب عادلة ومشروعة خصوصاً في ظل الفساد المالي واستغلال واردات النفط لصالح بعض الأطراف السياسية والحزبية, تلك الموارد التي كان من المفترض توجيهها لخدمة الشعب والأجيال القادمة.
لقد كان الأولى بالإقليم العمل الجاد من أجل إصدار قانون للنفط والغاز مقبول وطنياً كي يتمكن من تصدير النفط في ظل قانون صريح يحدّد آليات إستخراجه وبيعه بحسب توصيات الخبراء والمعنيين بالشأن النفطي إضافة الى التركيز على الصناعة النفطية في الإقليم بدلاً من عمليات البيع غير الشفافة التي أدّت الى ما نحن عليه الآن.
ومهمة جميع القوى السياسية الممثلة بالبرلمان والحكومة ومنظمات المجتمع المدني هي أن تكون مع ارادة الشعب وتلبية المطالب المشروعة التي ترفعها تظاهرات سلمية وحرة.
الإستجابة والتفاعل إيجابياً مع المطالب ومع إرادة المتظاهرين يمنع ويحول دون حصول تطورات مؤسفة من قبيل إستخدام العنف والفوضى والتخريب التي يمكن أن تدفع إليها بعض الاطراف المندسة بالحراك الجماهيري.
إن قيادات التظاهرات مطالبة هي الأخرى بتحصين تحركها من أن يجري استغلاله وبما يسيئ أولاً إلى المتظاهرين أنفسهم وإلى مطالبهم المشروعة.
وفي مواجهة أية تطورات محتملة أخرى لابد من النظر إلى جميع المشاكل بروح إيجابية من قبل الأطراف السياسية الأساسية كلها، وتفادي تأجيل الحلول، وتجاوز حالات الإختناق الحاصلة في الحوار والتفاهم بشأن المشكلات التي ما عادت تحتمل التأجيل.
وسيكون الحوار والتفاهم مع السلطات الإتحادية في المقدمة من المهمات التي تقع على عاتق السلطة في الإقليم. لا بد من حلول واضحة وجذرية تنظم الصلة بشأن الثروة النفطية وعائداتها وتسويقها وعلى وفق مبادئ الدستور العراقي الذي صوتت عليه كردستان أيضاً, لا على أساس الفئوية أو الحزبية وهو ما بُنيتْ عليه معظم القرارات المتعلقة بالشأن الإقتصادي!
إن العلاقة بين الأطراف العراقية المختلفة سواء كانت أحزاب أم شخصيات وبين الطرف الكردي كانت ممتازة ولم يتعكّر صفو الأجواء السياسية منذ أيام المعارضة وحتى سنوات 2011 و 2012 مروراً بمجلس الحكم والحكومات التي تشكّلت بعده وكان الإقليم يتمتع بحقه من الميزانية. ولكن وللأسف الشديد تدهورت الأمور مع تصدير النفط والتصريحات غير الواقعية من قبل قسم من المسؤولين والسياسيين التي أدّت الى التشنّج في الآراء والمواقف وبالتالي الى ضعف العلاقة بين الإقليم والحكومة في بغداد.
لقد أشرنا سابقاً الى أن العلاقة الإيجابية مع الحكومة الإتحادية هي في صالح الإقليم وخصوصاً ما يتعلق بالقرارات السياسية والإقتصادية التي لها تأثير كبير في تحقيق طموحات الشعب الكردي. كما دعونا في مناسبة أخرى الى ضرورة توطيد العلاقة مع الحكومة المركزية ومختلف الأطراف السياسية لحل المشكلات الداخلية والتمسّك بالخيار الوطني للخروج من كل ما يمكن أن يصادفه الإقليم من أزمات ومشكلات سياسية واقتصادية سواءً داخل الإقليم أو مع الحكومة الإتحادية فهي أهم وأفضل بكثير من البحث عن الحل عند الاطراف الخارجية.
ولابد من العمل المخلص من أجل أن يكون برلمان الإقليم خيمة لحل المشكلات ولا يكون وضعه جزءاً معقداً من المشاكل التي تواجه الإقليم والشعب في كردستان خصوصاً مع عدم وجود دستور للإقليم. ولهذا لابد من عودة البرلمانيين ليجتمعوا في برلمانهم بأربيل وبلا استثناءات، ولابد من تأكيد مشروعية أن سلطة البرلمان هي السلطة الأعلى المنتخبة في الإقليم وهي مصدر التشريع والمراقبة على الأداء الحكومي.
ولابد أيضا من استئناف جميع الوزراء لعملهم في الحكومة وبما يؤمن انسيابية الخدمات للمواطنين ولمحافظات وإدارات الإقليم بكل شعور بالمسؤولية التي تستطيع أن تقدر خطورة الظرف الذي نعيشه جميعا سواء في الاقليم او في العراق ككل ونحن نواجه تحديات الإرهاب الداعشي.
حين نستطيع تجاوز هذه الاختناقات التي حصلت بفعل التداعيات الأخيرة نكون قد توفرنا على بيئة تفاهم ممكنة لحل مشكلة رئاسة الإقليم في ضوء القوانين والاتفاقات والتفاهمات النافذة حالياً، وهي مشكلة جذرية وقد تكون من الأسباب الرئيسة لحصول التداعيات والتطورات الأخيرة في الإقليم.
إن إقليم كردستان الذي نجح خلال سنوات في تأكيده حسن التفاهم والتعايش والتسامح وبما جعل منه مثالاً طيباً يُحتذى به لا ينبغي له أن يخسر هذه الصفة في ظروف الديمقراطية والسلام الراهنة. وإن شعب كردستان الذي ناضل طويلاً ضد الدكتاتورية لا يفترض أن يُجازى بحكمٍ مركزي يعيق خطواته نحو الديمقراطية والتنمية الإقتصادية والرفاه وتحقيق العدالة الإجتماعية.
الديمقراطية تتعزز دائماً بالمزيد من الديمقراطية والحرية وقبول الآخر وبالمزيد من قيم الحوار الإيجابي البنّاء.
ديمقراطية كردستان وسلام الحياة فيها وعدالة العيش في جميع مدنها وحرية أهلها هي مبادئ فوق كل اعتبار