د.عبد اللطيف جمال رشيد
المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية
وزير الموارد المائية الأسبق
بات الفساد، بوجوهه المختلفة، عاملاً شديد التعويق للتقدم السياسي المنشود بعد كل هذه السنوات. لقد كان الأمر متلازماً بين الفساد كمظهر لتعثر الوضع السياسي وارباكاته، وبين هذا التعثر الذي أسهمت في تنميته عوامل الفساد وظروفه.
وإذا كان الفساد آفة مستشرية، بحدود متفاوتة، في جميع النظم السياسية في العالم المعاصر، فإنه عادةً ما يصطدم بالكثير من الاجراءات التي تتخذها الحكومات للحد منه، وفي المقدمة من هذه الاجراءات إشاعة مبادئ الشفافية، كما تتخذها المجتمعات لحماية أموالها العامة وإداراتها ومؤسساتها وذلك بالعمل على توفير أكبر مساحة للحريات الصحفية وحقها في المراقبة والوصول إلى المعلومات.
قد تختلف الصورة في العراق عما هي عليه في معظم دول العالم، سواء منها الديمقراطية أو الشمولية، فالدول ذات الأنظمة الشمولية عادةً ما تكون محكومة بنظام صارم يجعل الثروات وفرص التصرف بها منوطة بمركزية شديدة، يكون معها الفساد مقترناً بأعلى هرم السلطة، بينما يستشري الفساد في أغلب مفاصل جسد السلطة الشمولية حين تكون هذه السلطة في حالة ضعف وانهيار. إما في الدول الديمقراطية فإنها وكلما تمتنت الديمقراطية تخلق نظاما متشابكا من الحماية التي تصد الفساد، نظام يشارك فيه المجتمع والسلطات المختلفة، من القوانين إلى البرلمان فالصحافة والمواطن العادي المحصن ثقافياً وقانونياً وتربوياً ضد الفساد.
في العراق ورثنا تركات نظام شمولي احتكر السلطة والمال في أوج قوته، بينمـــا نمت وكبرت مظــاهر الفســاد في الجهـاز الحكومي بمختلف حلقاته الدنيا والعليا، في العقدين الأخيرين من عمر السلطة مع الحروب والحصار واشتداد طغيان السلطة ضد المجتمع وتجويعه ودفعه لمواجهة أسوأ الأوضاع المعيشية في كل المجالات.
وفي الظروف التي رافقت تغيير السلطة في العراق كانت البيئة مناسبة لنمو مظاهر تقليدية للفساد في الجهاز الإداري للدولة وأيضاً عند بعض التكتلات الحزبية إلى جنب مظاهر أخرى هي الأخطر، استجدت مع حداثة تجربتنا في النظام الديمقراطي اللا مركزي من جانب ومع ما رافق التغيير من جانب آخر من مشكلات تفكك بنى الدولة وإعادة بنائها في أجواء من عدم الاستقرار الأمني المصحوب بمشكلات سياسية واجتماعية ما زالت لم تجد الحلول التي تضع الدولة على الطريق الصحيح.
إن المظاهر التقليدية للفساد قابلة للعلاج على صعيدين، ولكن في ظروف أكثر استقراراً، وسيكون الصعيد الأول تربوياً واقتصادياً يكون معه الموظفون في غنى عن فساد مالي وإداري في علاقتهم بعملهم وبالمواطنين، فيما يكون الصعيد الثاني قانونياً ورقابياً يمنع من تسول له نفسه من الانحدار بالوظيفة لمثل تلك المظاهر.
لكن المظاهر المستجدة هي الأخطر، وهي التي توصف عادةً بأنها الوجه الآخر للإرهاب، إنها فساد الحيتان الكبيرة التي تضيع معها الثروات وفرص البناء ومعالجة المشكلات العاصفة بالأداء الحكومي طيلة هذه السنوات التي أعقبت التغيير, ومعلوم أن المعنيين بالحيتان هم بعض الشخصيات داخل العراق ومن العائدين من الخارج.
من المؤسف أن الصلة ليست جدلية فقط بين الارهاب وهذا الفساد وإنما أيضاً هي صلة عضوية بمظاهر مرضية رافقت العملية السياسية كالمحاصصة التي تحمي الفساد وتتغذى عليه.
لقد حجب غياب الشفافية الكثير مما يمكن الاستدلال به على صفقات فساد كبرى، وهذا من مظاهر نظام تحاصصي يعيق الدور الرقابي للبرلمان، وهو دور لا يكون فاعلاً من دون مؤازرة مجتمعية تتيحها الشفافية للإعلام والأفراد والمنظمات.
وهنا نشير إلى محدودية أدوار الهيئات الرقابية، المستقلة منها والحكومية. فعادة ما تصطدم هذه الأدوار بالتدخلات السياسية التي تعيق عملها وتمنعه، لتكتفي هذه الهيئات بتسليط الأضواء بين حين وآخر على الحلقات (الأضعف) في هيكل الفساد الضخم. ومن المفارقات أن أحداً لم يتحدث عما إذا كان ما تنفقه الدولة على هذه الهيئات يتوازى مع حجم ما تكشف عنه الهيئات من أموال منهوبة بالفساد ومع المعاد منه لخزينة الدولة.
ومن بين أخطر مظاهر الفساد التي تمتد تأثيراتها ليس على الأجيال الآن فقط وإنما أيضاً على من سيأتي من أجيال مستقبلاً، هي أشكال الفساد التي لا تسطو بشكل مباشر على الأموال من خلال صفقات عقود وسواها وإنما تمتد إلى التصرف بالثروة الطبيعية العامة، كالأراضي, المياه الجوفية، النفط والغاز الطبيعي واستخدامها مرة في مصالح علاقات عامة ومنافع سياسية ومرات في التأسيس لإمبراطوريات مالية.
ولعل التصرف بالأراضي وتوزيعها بطريقة عشوائية غير خاضعة لاعتبارات فنية ولا اعتبارات تحرص على المال العام كملكية للجميع، سواء الأحياء الآن أو من سيولدون هو الشكل الأكثر كارثية في هذا المظهر الخطير للفساد.
وهذا شكل من أشكال استغلال المال العام في الدعاية وترتيب المصالح السياسية، كما هو نهب مالي لثروات لا يجوز التصرف بها بالطرق التي جرت وتجري الآن.
ولعل استخدام الثروة النفطية والغاز الطبيعي في هذا الإطار هو شكل أكثر وضوحا للفساد، حيث يجري تبذير عوائدها الضخمة عن طريق إنفاقها بجهل وتعسُّفٍ منشؤه الفكر السلطوي وليس الإدارة الحكيمة للثروات.
ومن المهم هنا التأكيد على أنّ جميع الثروات النفطية والمياه والأراضي ليست ملكاً لأحد, سواء كانت الحكومة أو البرلمان أو حتى الجيل الحالي من الشعب, وإنما هي ملكٌ لهذا الجيل والأجيال القادمة التي تليه, ويجب التصرف بشديد الحكمة وبموافقة مندوبي الشعب بهذه الثروات وخصوصاً الناضبة منها كالنفط وأن يُحسب حساب المستقبل المنظور والبعيد كما يحسب حساب الحاضر, من خلال العمل على المشاريع الإستراتيجية العملاقة وتقديم الخدمات الطويلة الأمد التي تصب في مصلحة المواطن العراقي, والإبتعاد عن الحلول الترقيعية فيما يخص هذا الملف أي ملف الخدمات الذي تشبّع بالحلول الآنية والوقتية وهي في كثيرٍ من حالاتها تجيّر لأجل المنفعة الشخصية أو الحزبية, ولا نكشف جديداً حينما نقول بأن بعض السياسات الحالية لو جرت في البلدان التي تتمتع بشفافية أكبر لكان حساب المسؤولين عن تقصيرهم في أداء واجباتهم عسيراً.
إنّ تجاهل المصلحة العامة شكلٌ من أشكال الفساد الإداري والسياسي، وإنما يتطور الفساد في سوء التعامل مع هذه الثروات لصالح استثمارات شخصية وليس للصالح العام, حين يقوم المسؤولون بتصرفاتٍ ذاتية تسمح لهم بها مواقع المسؤولية والسلطة, لجمع أكبر قدرٍ ممكن من المال, وهو فسادٌ يتستر بإطار قانوني لتكوين الثروة وتأمين قوة النفوذ المستقبلي، وكل هذا يجري على حساب حقوق الأجيال.
إن فوضى الحياة السياسية وما يرافقها من مشكلات الأمن وجهل الناس بحقوقهم وضعف الشعور بالمسؤولية العامة هي ممرات سمحت بمرور الكثير من حالات الفساد، ولكن الأشد خطورة أنها سمحت بتطور أشكال الفساد وتناميها، بحيث بات من متطلبات الفساد أن يستمر هذا الوضع المشين على صعيد السياسة والأمن, ومع شديد الأسف أنْ أدّى ذلك الى إنحطاط الأخلاق والمنظومة القيمية إضافة الى الناحيتين السياسية والإقتصادية لدى نسبة غير قليلة من المجتمع, والذي ساعد على هذا الأمر التراجع الامني واستفحال دور الإرهاب والمشاكل المستمرة دونما أفق واضح. وهنا لانستبعد إتهام القيادات والنخب السياسية بالتقصير وبالتالي الفشل في تحقيق أدنى الأهداف المرجوّة منهم.
ولا تبدو الحلول السريعة ممكنة في مثل هذه الظروف، لكن الحلول المتوقعة لا تأتي إلا من خلال تنامي الوعي الشعبي، من خلال معرفة الناس أنها تمتلك القوة، قوة استخدامها حقها الديمقراطي بكيفية التصرف بأصواتها في الانتخابات، ومن خلال عمل حثيث من النخب على التوعية والتنبيه والتأسيس لروح نقدية جريئة في التصدي للمظاهر السيئة وعملية في طرح البدائل والضغط من أجل إصلاح مستويات الأداء السياسي والاقتصادي والخدمي.. وهذه بعض من مهام المجتمع في تقويم السياسات العامة وفي الحفاظ على الثروات وحسن استخدامها وتأمين فرص أفضل لأجيال المستقبل.
إنّ من واجب الشعب هو القيام بتغييرات جذرية للقيادات الحالية, والإتيان بدماء جديدة كفوءة ومخلصة تضطلع بالمسؤولية الكبيرة التي تنتظرها في بناء دولة قادرة تستطيع مواكبة التطوّر العالمي واللحاق بالركب الأممي, من خلال مكافحة كل أشكال الخلل في مفاصل الدولة سياسياً كان أم إقتصادياً. كما يجب على المجتمع أن يدفع بالنخب المثقفة الى الواجهة السياسية, بغية إعطاء دور أكبر لهذه النخب في صياغة برنامج سياسي شامل لإدارة الدولة وتشخيص جميع حالات الفساد المستشرية في مرافقها, والعمل الجاد على إقصاء الوجوه التي ساهمت في إنتشاره, وقامت بتضليل القضاء والرأي العام حين أدّعت بأنها هي من حاربت الفساد!!