الديمقراطية لاتبنى باعتماد قوانين وتعليمات الإستبداد

 

الديمقراطية لاتبنى باعتماد قوانين وتعليمات الإستبداد

 

د. عبد اللطيف جمال رشيد

المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية

وزير الموارد المائية الأسبق

27 أيلول 2011

 

كان العراق على مدى التأريخ حلْبةً للصراعات والإحتلالات من قبل العديد من الإمبراطوريات والتي كانت تعيِّن لها في بغداد حاكماً أجنبياً تلو آخرْ دون أنْ يكون للشعب حقَّ إبداء الرأي فيمن سَيحْكُمهمْ, ولم تكن قرارات هذه القوى المُستعْمِرة تحسب أيَّ حســاب لحقـــوق وواجبــات الشعب ولا لتكويناته القومية الديـنية والمذهبية... الخ، ولم يكن للشعب القُدْرة على التعبير عن طموحاته في المسائل التي تخصُّ أموره السياسية والمعيشية .. وإستمرت هذه الحال حتى سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ووَضْعِ العراق تحت الإنتداب البريطاني.

ولم يختلف الأمر كثيراً عند تأسيس الممكلة العراقية بداية العشرينات من القرن الماضي ولاحتى بعد سقوطها ونشوء الحكومات الديكتاتورية التي وَصَلتْ الى الحُكْم بالإنقلابات الدامية وقوة السلاح .. فلم يُفسَح المجال للشعب العراقي بالمشاركة في الحكم وصُنْع القرارات التي تهمُّ مصيره السِّياسي والإقتصادي ما أدّى الى ضَعْف الشعور بالإنتماء الوطني لدى الفرد العراقي وتراجع إيمانه بدوره في المساهمة في بناءِ مؤسسات الدولة.

وصَلتْ حالة الإستبداد والديكتاتورية الى ذرْوتِها في فترة حُكْم صدام حسين حتى أصبحت البلاد حِكْراً عليه وعلى قراراتِه الإنفرادية الهوجاء التي دفعتْ بالعراق الى أنْ يخوض غمارَ حربٍ عقيمةٍ لثمانِ سنوات أراقتِ الكثير من الدماء وخلَّفت أعداداً كبيرةً من المُعاقين والأرامل واليَتامى، ولم يألُ النظام القَمْعي جهْداً في ممارسة أبْشَع أنواع الإضطهاد والتعسُّفْ وحملات الإعدامات ضدَّ أكثرية الشَّعْب العراقي وخاصّةً الشَّعْب الكوردي من خلال جرائم الأنفال وضَرْب الآمنين بالأسلحة الكيمياوية في كوردستان العراق وكذلك عملياته الوحشية في مناطق العراق الجنوبية التي وصلت حدّ القصف بالمدافع الثقيلة ما أدّى الى تعطيل الطاقة البشرية والخدمية الهائلة وتدميرها بدلاً من إستغلالها في برامج التنمية والوصول بالعراق الى مصاف الدول المتقدمة.

ولم يكتفِ نظام الرجل الواحد بذلك، بل غامر بالدخول في حربين أُخريين ومواجهة أكبر تحالفٍ دولي، وفُرِضَ عليه حصارٌ إقتصاديٌ شامل لأكثر من إثنتي عشر سنة أدّى الى تحطيمٍ كاملٍ للبُنى التحتية والخدمات وإنهيار الإقتصاد والدينار العراقي .. نتيجةً لذلك فإنّ فرص العمل الشحيحة أرْغَمتِ العراقيين على أنْ يبحثوا عن لقمة العيش في غيْر بلدهم ولو على حِساب كرامَتهِم الشخصيّة وللأسَف الشديد.

وخلال فترة حُكْمه البائد وجَّه صدام كلّ موارد البلاد المُعْتمدة على بيْع النفط الى شراء وتصنيع الســلاح وعسْكرة المجتمع، وأهْمل القِطـــاعـــاتِ التنموية والعلميّة والثقـــافية كما شَمِل إهمالَه شريحة العلماء والكفاءات والنخب المثقفة, وشهِدت البلاد تراجعاً مُتسارعاً في مجالات الصّحة والبيئة والمياه والإتصالات والتربية والتعليم فكثرت المشاكل وتعقَّدت الأمور أكثر وإرتفعت نسب البطالة والجريمة وإنتهى العراق الى أنْ يتخلَّف عن ركْب التطوّر العالمي ويعيش عُزلةً شبْه تامّة أدّت الى تغييرات إجتماعية وثقافية وإقتصادية خطيرة إنعكست سلباً على الواقع الخدمي لكافة المجالات الحيوية في حياة الإنسان العراقي وأضعفتِ البلد سياسياً وإقتصادياً وخلقت فجوةً كبيرةً بينه وبين المجتمع الدولي، ولم تعُد الكثير من الدول تأخذ في حُسبانها العراق كدولة قوية مُستقلة ذات سيادة فزادت تدخُّلاتها في شؤونه الداخلية وبالأخص الدول الإقليمية.

إضافةً الى ما سَبق فإنَّ تغيير النظام عام 2003 وما رافقَهُ من بعض الحسابات الأمريكيّة الخاطئة (بإعتراف المسؤولين الأمريكيين) أنتجت مشاكل جمّة وكبيرة ومنها من الناحية السياسية ،مثلاً، التدخلات الحزبية والطائفية في عملية بناء مفاصل الدولة - بعد التغيير- التي أدّت الى الإتيان بأشخاص غير كفوئين الى مناصب مهمّة تشترط إدارتها وجود أصحاب الإختصاص ذوي الخبرة ممّن يستطيعون قيادة تلك المؤسّسات بكل علمية ومهنية وعدم الإستفادة من المؤسسات الإختصاصية والإستشارية المحلية والدولية بتقديم وتخطيط الإدارة والإقتصاد والتنمية الفعلية وكذلك رعاية التعليم والثقافة والإبداع بكل أشكاله والحثّ على إنتقاء الكتاب وتشجيع التعليم كعاملٍ مهمٍ وأساس في بناء الإنسان المتحضّر ونماء وعيه الجَمْعي في أهمية الوطن والمواطنة.

ولايُمْكن بأيِّ حالٍ من الأحوال تنفيذ كلّ ماسبق دون دراسةٍ كاملة وتخطيط جيد، إمّا عن طريق المشاريع الحكومية أو الإستثمار ومتابعة تنفيذ تلك المشاريع متابعة فنية جدية.. وفي كلا الحالتين فالعراق بحاجة جدِّية لإعادة النظر في القوانين والتعليمات الحكومية الخدمية والتنموية فبعضها قديمٌ جداً ومرتبطٌ بنظام مركزيٍ وإستبدادي غير متطوّر، وبعضها الآخر يرجع الى عهْد الحكومات السابقة والنُظُم الديكتاتورية التي حَكمَتِ العراق ولاتتلاءم بتاتاً مع الوضع الجديد.. ومع التطور الحاصل في جميع المجالات، فنحن بحاجة الى تغيير وتحسين القوانين والتعليمات وخاصّةً ما يتعلّق بالأمور السياسية والإجتماعية التي تخصُّ القوميات والديانات وكذلك الإجراءات الإدارية والمالية في الدولة من معاملات البنوك وخطابات الضمان والتحويلات وكذلك ما يتعلق بالنظام الضريبي وإدارة الموارد المالية وقوانين الإستثمار... الخ، فكلها تحتاج الى تحديث وليس جديداً أن نقول إنَّ قِسْماً من هذه التعليمات التنفيذية الموجودة في مؤسسات الدولة قد عرْقلتِ الكثير من المشاريع وتحسين الخدمات وسبّبت لها التأخير في الإنجاز كما إنّ هذه التعليمات هي بوابة لإستشراء التفرقة والفساد المالي والإداري.

ولا يخْفى إنّ أحد أهمِّ المطالب العامة الوطنيةً هو التركيز على موضوع الإستثمار والإعتماد عليه كعاملٍ فعّال في عملية الإعمار من خلال إستقدام رؤوس الأموال الكبيرة وعدم الإكتفاء بما توفِّره الدولة من أموال تشغيلية لاتكاد تسدُّ جزءاً بسيطاً من حاجة البلاد الفعلية من الخدمات، هذا وبالتزامن مع تحسين صناعة النفط ووضع الخطط الكفيلة برفع إنتاجه كي نضْمن أكبر قدْرٍ ممكن من الموارد المالية لخزينة الدولة وإيجاد حلول ستراتيجية لمُشكلة التنمية والزراعة والطاقة بالإبتعاد عن الحلول الوقتية وذلك ببناء محطات كبيرة تُغني المواطن عن المولدات الأهلية التي أصبحت تشكّل له عبئاً مالياً مثلما تشكِّل خطراً بيئياً ببعثها الغازات السّامة.

ومن الضرورة بمكان الإهتمام الجاد بمسألة المياه والزراعة والبحث عن حلولٍ ناجعةٍ لقضية تقاسم المياه مع دول المنْبع والوصول معها الى إتفاقيات نهائية وحلّ جميع مشاكل الحدود العالقة منذ زمنٍ بعيد.

وكذلك من المطالب الجماهيرية الضرورية تحسين واقع التعليم وذلك بوضع مناهج دراسية متطورة تواكب التقدّم الحاصل في أساليب التدريس في الدول المجاورة على الأقل، وكذلك النهوض بالواقعِ الصحّي والقيام بمسؤولية تحسين أداء المستشفيات والمستوصفات الصحية وتوفير الدواء في المستشفيات والصيدليات العامة والخاصة, والقيام بثورة في مجال السكن والقضاء على هذه المشكلة المتجذرة والمتفاقمة عن طريق بناء وحدات سكنية واطئة الكُلْفة لفئات الشعب المختلفة حسب تصاميم ومخططات توضع من قبل مستشارين ذوي كفاءة وتجربة تراعي تطور المدن ومعدلات نمو السُّكان والخدمات فيها.

ويمكن ,إجمالاً, أنْ نشير الى أنّ أهم ما يحتاجه العراق في المرحلة الراهنة هو الآتي:

- التخطيط الاستراتيجي في بناء المشاريع العملاقة والإستفادة القصوى من الشركات الإستشارية الكفوءة وصاحبة التجربة إضافة الى الإستفادة من الخبرة المحلية.

- محاربة الفساد بكل أشكاله وعرض نتائج التحقيقات في قضايا الفساد على الرأي العام وعدم التستّر على المُفسدين مهما كانت مرجعيتهم.

- تشجيع الكفاءات العراقية وبالأخص المهاجرة منها وإستقدامها من دول المَهْجر وذلك بتقديم حوافز مجزية وتأمين حياة كريمة لهم ولعوائلهم.

- العمل على إحياء الشعور بالإنتماء الوطني وتغليب مصلحة البلاد العليا على المصالح الفردية والحزبية والمذهبية.

- تحقيق العدالة الإجتماعية في توزيع فرص العمل والرواتب وكذلك إنجاز معاملات المواطنين بسرعة دون الدخول في دوّامة الروتين وهذا يتطلّب من الموظفين وعياً وإلتزاماً بأوقات الدوام الرسمي وإستثمار وقت مؤسسات الدولة لتنفيذ برامج الخدمات والتنمية وتمشية أمور المواطنين بحسٍّ وطنيٍ عال.

- تقوية مؤسسات الدولة وعدم فسْح المجال لاستغلالها من قبل أيِّ جهةٍ كانت, والتأكيد على أنّ واجب تلك المؤسسات هو تقديم الخدمات لكافة المواطنين دون تمييز.

- العمل على تقوية النهْج الديموقراطي في البلد وعدم فسح المجال لكل أشكال الصراعات على المناصب والمكاسب حزبية كانت أم شخصية.

- العمل الجاد على تطبيق الخطط التنموية من أجل تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، ولا يتمّ ذلك إلا عبر إداراتٍ كفوءة تدير مفاصل الدولة بكل شفافية خاصّة وأنّ العراق لديه من الإمكانيات المادية والبشرية والموارد الطبيعية ما يمكّنه من إنجاز تلك الخطط بوقتٍ قياسي.

- القيام بإصلاحات تشريعية ومؤسّساتية شاملة ومراجعة دقيقة للكم الهائل من القوانين الروتينية القديمة التي لا تساير تطور الفلسفة السياسية والاقتصادية الجديدة للبلد ولا تنسجم مع متطلبات حركة الإقتصاد العالمي الجديد من نواحٍ عديدة, لعلَّ أهمها القوانين الخاصّة بالإستثمار وما يلزمها من إدخال تقنيات مصرفية حديثة تسهّل حركة رؤوس الأموال من أجل إيجاد بيئة عمل حقيقية تساعد على تطوير البنية الأساسية للإقتصاد العراقي وتنمية النشاط التجاري وتؤدي الى إيجاد فرص جديدة للعمل وتساهم في القضاء على البطالة.

ومعلوم إنّ ما أوردناه سابقاً لا يمثل كل الطموح العراقي في رؤية عراقٍ ديمقراطي جديد ينعمُ بخيراته على أحسن الوجوه, ولكنه يمثل الحدّ الأدنى لما يجب القيام به وبأسرع وقت ممكن لأجل حاضر العراقيين ومستقبلهم.