د. عبد اللطيف جمال رشيد

المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية

وزير الموارد المائية الأسبق

تشرين ثاني 2012

تتباين تجارب الفيدراليات من دولة إلى أخرى، وغالباً ما تتحكم ظروف البلدان والمناطق المفدرلة بالطبيعة الخاصة للفيدرالية، فما تتطلبه تجربة ما قد لا يناسب سواها..لكن، وفي كل حال، فإن النماذج المتاحة حتى الآن تكفي لأن تكون معياراً مناسباً لتشكّل الفيدراليات الجديدة..إنها نماذج من التنوّع والغنى في التجربة ما يكفي لأن تكون دليلاً مناسباً للدول التي تسعى لتبني النظام الفيدرالي، وهي دول آخذة بالتزايد، في ضوء ما قدمته التجارب من نجاح في الإدارات وتوزيع السلطات والقدرة على تجاوز الإختناقات، خصوصاً في الدول المتنوعة سكانياً وذات الطبيعة الجغرافية الكبيرة.

فعمليا، هناك 28 دولة،يشكل سكانها مايقرب من 40% من مجموع سكان العالم، تبنت النظام الفيدرالي وتدعى بدول فيدرالية, أو تعتبر بشكل عام فيدرالية..وفي الغالب فان هذه الدول هي من الدول التي تبنت الخيار الديمقراطي..فيما تطمح الدول التي تسعى للحاق بالركب الديمقراطي إلى اعتماد النظام الفيدرالي وذلك بالتساوق مع عملية الإنتقال الى الديمقراطية.

وتاريخياً يمكن ملاحظة أنه تمّ تبنّي النظام الفيدرالي في الدول التي شهدت صراعات والتي اهتدت بعد تجارب عصيبة الى اعتماد الفيدرالية، وذلك كحل للأزمات من خلال الانتقال الى نظام سياسي تتقاسم فيه الحكومات المركزية صلاحياتها الدستورية وواجباتها الإدارية مع الأقاليم, كما يمكن أنْ تأخذ الأقاليم مهام وصلاحيات من المركز بحسب الإتفاقات والدستور.

وهي - أي الفيدرالية- إحدى الصيغ الدستورية والقانونية التي تنظّم وتوزع الإختصاصات والسلطات بين حكومة المركز وحكومة الأقليم في دولة واحدة, وتقوم بتثبيت الإدارة والسياسة على نحوٍ يسمح لحكومة لإقليم التمتّع بقدرٍ كبيرٍ من الصلاحيات والسلطات في إدارة شؤونها.

إنّ أهم إنجازات الفيدرالية تتركّز في دعم الديمقراطية وضمان مساهمة الأقاليم في إدارة مناطقهم وإفساح المجال للسكان من مختلف القوميات والديانات للتعبير عن تطلعاتهم واختيار ممثليهم في المجالس المحلية والنيابية في الإقليم والمركز.

ومن الطبيعي أنْ تختلف الأنظمة الفيدرالية الواحدة عن الأخرى, وذلك حسب التكوين الإقتصادي والإجتماعي والقومي والمؤسساتي لهذه الدولة أو تلك, وهذا التنوّع أحد ركائز قوة الفيدرالية إذ لايمكن لنموذج فيدراليٍ واحد يمكن أنْ يكون ملائماً لجميع الأحوال والظروف في بلدان مختلفة, فهي تتضمّن دولاً كبيرة ودولاً صغيرة, غنية وفقيرة, دول من قومية واحدة ودول متعدّدة القوميات والمذاهب والأديان والأعراق, وفي معظمها يوجد رئيس وزراء وحكومة برلمانية, وفي البعض الآخر يوجد رئيس للبلاد ومؤسسات تشريعية وتنفيذية.

نشأت الفيدرالية من خلال هيكل أحادي شديد المركزية (سلطوي وغير ديمقراطي), فالخيار الفيدرالي هو إستجابة للضغوط السياسية الديمقراطية, وعملية نقل للسلطات (بسبب التعددية الموجودة في الدولة سواءً أكانت قوميةً أم دينية أم لغة) ضمن عملية ديمقراطية من أجل إستغلال الموارد بطريقة أمثل والتنافس الإيجابي بين مؤسسات الأقاليم المختلفة بهدف الوصول الى تقديم أفضل الخدمات, كما تعمل على حل النزاعات والتوتّرات بين مناطق الأقاليم المختلفة والتمتع بالحقوق القومية والدينية والإثنية.

على سبيل المثال سكوتلندا- وهي جزء من بريطانيا - تتمتع بصلاحيات كبيرة وتشارك في القرارات السياسية والإدراية المهمة.. وبحسب ما ينص عليه الدستور السكوتلندي (Scotland Act) الذي يشتمل على أكثر من 160 صفحة من القرارات والتعليمات الخاصة بالأمور التنفيذية والتشريعية وسن القوانين وقرارات المحاكم السكوتلندية, حتى إنّ سكوتلندا لها الحق بطبع عملتها الخاصة بموجب الدستور.. ومع كل هذا, فإن رئيس الوزراء البريطاني سافر - منذ فترة ليست بعيدة- بنفسه للقاء الوزير الاول الإسكوتلندي من أجل إبرام الإتفاقيات حول الإستقلال, علماً بأنّ 15% من الشعب السكوتلندي فقط يؤيد الإنفصال عن المملكة المتحدة, والكتلة البرلمانية السكوتلندية هي من الكتل السياسية المهمة في البرلمان البريطاني, كما أنّ المناصب الكبيرة في بريطانيا - ولأحايين كثيرة- من نصيبهم, مثل منصب رئيس الوزراء ووزارات الدفاع, والخارجية, والخزانة.. إضافةً الى الوزارات الأخرى.

ومن الحالات الأخرى تبرز تجربة كيوبيك في كندا, فهي تتمتع بمستوى مماثل من الصلاحيات والمشاركة في القرار.. وكذلك دولة الإمارات العربية المتحدة تعد إحدى الفيدراليات في المنطقة العربية, كما توجد أمثلة عديدة في العالم المتحضر حيث تتوزّع الصلاحيات بين المركز والأقاليم, إذ إن الظروف والمتغيرات العالمية الجديدة فرضت على المركز في الدول الاوربية والدول الكبيرة مثل أمريكا وروسيا أن تحتفظ بصلاحيات أقل مما كانت عليه سابقاً لصالح الأقاليم.

ويجري اعتماد مبدأ الأقلية والأكثرية داخل الحكومات المركزية الفيدرالية ذات التعددية القومية أو الدينية, على سبيل المثال, يوجد في كندا نظام برلماني يقوم على الأغلبية, غير أنّ الأقلية الفرنسية الكندية تلعب دوراً هامّاً في تشكيل أية حكومة.. وفي حالات أخرى كسويسرا مثلاً, فانها تتبع منهجاً يقوم على الشراكة بين كافة الأحزاب الرئيسة لتشكيل الحكومة المركزية.

والأعمدة القانونية للفيدرالية تركّز الحكم الفيدرالي على أساس الدستور وسيادة القانون, حيث يضع الدستور الأطر والمبادئ الأساسية للنظام الفدرالي.

في حالات الخلاف, يتطلب الأمر اعتماد حَكَمٍ دستوري لحل النزاعات, وعادةً ما يسند هذا الدور الى محاكم خاصّة تعمل على إيجاد التفسير القانوني للدستور, كما أنّ شرعية المحاكم قضية رئيسة فيما يخص تعيين القضاة وفترة ولاياتهم والتوازن بين الإجراءات القضائية.

من الضروري هنا اعتماد تطبيق الدستور والقوانين بشكل تفصيلي وكامل بغية تثبيت الديمقراطية والفدرالية, وكذلك العمل على تقوية الثقة بين المركز والأقاليم والمنافسة على تحسين وضع المجتمع من الناحية الخدمية والتنموية والعمران, وبالتالي تحسين وضع المجتمع إقتصادياً, وتنفيذ الديمقراطية بدون تلكؤ وإنجاح عملية الإنتخابات من خلال الإمتناع عن تزوير الأصوات ومراعاة الدستور والقوانين في جميع نشاطات الدولة.