د.عبد اللطيف جمال رشيد

 

يعلمنا التاريخ أن الفرص السياسية عادةً ما تؤاتي الشعوب في ظروف معينة ومفصلية يمكن الإستفادة منها في خلق مجتمعات ودول يكون لها دور وتأثير في حركة التاريخ. ولكن المشكلة العسيرة في هذه الفرص أنها لا تأتي بوتيرة ملائمة أومتساوقة مع إرادات ونهضة هذه الشعوب أو قدرتها في التعبير عن ذاتها. بل قد تأتي أحياناً بعد أن سلبت منها الإرادة أو أختطف منها القرار المصيري.

   يصدق ما تقدم على حال الشعب العراقي وعلى الكرد تحديداً؛ فقد أضاعت أو ضُيّعت - وللأسف الشديد- العديد من الفرص التاريخية التي مرت خلال فترات عدة من الزمن.

   نعم، لقد استفاد الكرد من فرصة تغيير نظام الحكم في العراق. وتجلى ذلك في كتابة وتثبيت الدستور، إضافة الى الشراكة في الحكم وفي أجهزة الدولة التنفيذية والتشريعية وأخذ مسؤوليات كبرى بما فيها رئاسة الجمهورية، فضلاً عن إعمار المناطق الكردية وتطويرها الى المستوى الذي أصبحت عليه اليوم.    نعم لقد إستفدنا من تحول العراق من بلد دكتاتوري متعسف الى بلد بنظام ديمقراطي تعددي. وهذه كلها منجزات تحسب للعراق والعراقيين بجميع أطيافهم وقومياتهم. مع هذا لا يجب أن ننسى أو نتناسى وجود مشكلات سياسية واقتصـادية حقيقية تحتـاج الى حلـول ستراتيجيـة تضطلع بها الدولة العراقية من

خلال إقامة إدراة قوية تعمل على تحسين الأوضاع في عموم البلاد، ويمكن القول أن أول وأهم هذه المشكلات محاربة الفساد بكل أشكاله، وهذه مسؤولية الجميع الحكومة والأطراف السياسية، وهي ذات المشكلات المزمنة التي يعاني منها إقليم كردستان.

أقول يجب أن نعي بأن ما تحقق من منجزات يمكن أن يذهب أدراج الرياح بسبب أهواء أو رغبات بعض السياسيين. لقد عانينا جميعاً من مآسي الإرهاب وجرائمه ونهاية مجرمي داعش باتت وشيكة. وبداهةً فإن اندحار الإرهاب يعد أيضاً فرصة تاريخية جديدة ينبغي أن نستفيد منها في التوجه نحو الإعمار والتطوير وإقامة المشاريع الستراتيجية وانتشال العراق من واقعه الإقتصادي المتردي والسير بالبلاد نحو التنمية والبناء. كما ينبغي علينا العمل على ترميم علاقاتنا السياسية الداخلية والخارجية مع محيطنا الإقليمي والدولي. 

وقد يرى "البعض" من السياسيين أن في هزيمة الإرهاب فرصة للحصول على مكاسب جديدة أو تحقيق منجزات أكبر من خلال تنظيم استفتاء في اقليم كردستان لتقرير حق المصير. إن تقرير المصير حق لا غبار عليه وهو حق مشروع لا شك في ذلك. ولكن اتخاذ القرار بتحديد يوم للإستفتاء بدون الرجوع الى الشعب، أي الى نواب الشعب وهو برلمان كردستان، هو تأكيد على أن القضية برمتها حزبية لا تستند الى الأصول والقواعد المتعارف عليها في اتخاذ القرارت الكبرى والمصيرية كقرار الإستفتاء ومن ثم الإستقلال، فضلاً عن أن القرار مبهم لدى أغلب فئات الشعب الكردي إن لم نقل جميعها بالإضافة الى بقية الأطراف السياسية العراقية الأخرى. سيما وأن القرار تم اتخاذه حتى بدون تقديم برنامج يوضح الآليات التي ستطبق عند ظهور نتائج الإستفتاء.

ما يدعو للإستغراب حقاً هو أن الدعوة الى الإستفتاء جرت في فترة تم فيها تعطيل السلطة التشريعية في كردستان من قبل رئاسة الإقليم، وقطع رواتب الناس والتعمية على واردات الإقليم من بيع النفط، إذ لا شفافية ولا محاسبة، ولا شيء سوى قرارت فردية أدت الى عهد متشنج من العلاقات بين حكومة المركز ورئاسة الإقليم، حتى أن الأخيرة باتت تقوم بزيارات خارجية بدون تنسيق او مشاورة مع الأطراف السياسية داخل الإقليم فضلاً عن الاطراف العراقية الأخرى.

   نؤكد مرةً أخرى أن الإستفتاء هو حقٌ للشعب الكردي - كما لغيره من الشعوب - في التعبير عن طموحـاته المشروعة. ليس هذا محل خلاف. الخلاف

 

هو حول مرجعية اتخاذ هذا القرار، وهو الشعب ونوابه الممثلون في برلمان إقليم كردستان. إذ يفترض أن تكون الإرادة شعبية خالصة وليست حزبية أو فئوية.

إن الأحقية القانونية تعود الى برلمان كردستان وحده لاتخاذ قرار إجراء الإستفتاء بعد دراسة الموضوع مع الأطراف ذات العلاقة. وأن التوافق مع جميع هذه الاطراف والحصول على موافقتها هو السبيل الأمثل لإنجاح تجربة كبيرة وتاريخية كالإستقلال. إذ يجب أن تكون جميع النتائج المترتبة على الإستفتاء في صالح الشعب الكردي وحده من خلال توفير الظروف الموضوعية لتحقيق هدف كبير كهذا. فلا بُدّ من مشاورة الجهات السياسية في بغداد والإتفاق معها على رسم خارطة طريق واضحة تضمن حقوق الجميع. ولا بُدّ كذلك من مراعاة موقف الدول المجاورة والمجتمع الدولي.

ممثلو الشعب الكردي هم وحدهم أصحاب الدور الحقيقي في وضع برنامج مدروس وشفاف، تمر من خلاله قضية الإستقلال بمراحلها الطبيعية من الفدرالية الى الكونفدرالية الى الإستقلال التام وفق ظروف سياسية واقتصادية طبيعية وتوافق دولي يشجع ويضمن نجاح التجربة ويمنحها الشرعية والمقبولية من قبل الجميع.

والتسرع في اتخاذ القرارات، كل القرارات وخاصة المصيرية منها قد يأتي بنتائج عكسية وعلى غير ما تشتهي الأنفس. وبدون الاستعداد الكامل من النواحي الاقتصادية وبدون الإستقرار السياسي والأمني وتأييد الجماهير لا يمكن الإقبال على مثل هكذا خطوات مصيرية. والحل يكمن في تفعيل دور نواب الشعب في برلمان كردستان والعودة الى ممارسة واجباتهم في جوٍّ ديمقراطي وحر، إضافة الى اعتماد مبدأ الشفافية في الإيرادات المتحصلة عن بيع نفط كردستان والمباشرة بدفع الرواتب المقطوعة من قبل حكومة الاقليم والعمل الجدّي على حل المشاكل العالقة بين حكومة الإقليم وحكومة المركز.

 

  لا ينبغي إضاعة فرصة تاريخية أخرى بدون أخذ الأسباب الضامنة للوصول الى ما يتمناه الشعب الكردي منذ أمدٍ بعيد لمجرد تحقيق أمجاد حزبية أو طموحات شخصية لفرد أو مجموعة على حساب شعب كردستان وحلمه المشروع.