د. عبد اللطيف جمال رشيد
 
 
 
لم تبلغ العملية السياسية الجارية في العراق منذ 2003 مستوى من التأزيم بقدر ما تعانيها الآن.
غير خاف على الجميع بأن هناك أزمة سياسية حادة قوامها التنازع على السلطة وفقدان الثقة بين الجميع وغياب التزام جماعي باستراتيجية سياسية واضحة للبلد.
وفي ظل هذه الأزمة نمت واستفحلت أزمات كثيرة أخرى، في مقدمتها الأزمة المالية المتفاقمة ومشكلات الأمن وغياب الخدمات وانعدام التنمية في مختلف حقول الحياة والادارة والاقتصاد وهي نتائج مباشرة لسوء أو انعدام التخطيط في الإدارة السياسية للبلد.
فما هو متاح من ثروات طبيعية كبيرة جرى ويجري اهدارها في غمرة هذه الفوضى الضاربة من الأزمات.
الزيادة الحاصلة في انتاج النفط عما كان عليه، لم يعد لها من قيمة مع فقر الصناعات النفطية من جانب وانخفاض اسعار النفط من جانب مهم آخر. في الواقع فإن هذا الانخفاض أسهم في كشف حجم الخراب الكبير في السياسة النفطية، إن كانت هناك فعلا سياسة نفطية، وكشف المسؤولية عن تغييب التشريعات اللازمة لتطوير قطاع النفط، ناهيك عن تفاقم المشكلات التي لم تحل بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان وأثرها في خلق مشكلات تعدّت المجال النفطي إلى مجالات سياسية واقتصادية كثيرة للعراق ككل وللصلة الواهية بين العاصمة بغداد وأربيل مركز الإقليم، وأفضت الى الحال السيء كما في الإقليم حيث اتخذت إجراءات لا قانونية وغير مسؤولة من قبل حكومة الإقليم بقطع رواتب جميع شرائح المجمتع وسحب الأموال من المصارف وعدم دفع مستحقات المشاريع والخدمات؛ بسبب تعمّد تغليب المصلحة الحزبية على مصلحة شعب كردستان وكذلك لانعدام كفاءة حكومة الإقليم وخصوصاً في عدم مراعاة مطالب الجماهير المشروعة واهمال تلبية احتياجاتهم الأساسية، فضلاً عن الإصرار على المضي في سياسة الإبتعاد عن "العمق الستراتيجي" في بغداد والتقارب من تركيا أردوغان في السنوات الأخيرة تحديداً. وهو ما أدّى الى ضعف حكومة الإقليم من النواحي السياسية والإقتصادية والوصول الى خلق حاجز بين المواطنين وبين المسؤولين المصرّين على اتخاذ القرارات الإنعزالية والسير باتجاه التقليل من دور الحكومة الإتحادية المركزية.  
في ضوء ما تقدم، تتأكد القناعة لدينا بأن دور بغداد كمركز للقرارات مهم جداً لشعب كردستان وعلى مختلف الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية ..الخ، كما أننا لاحظنا - ولاحظ الكثيرون- كيف حظيت قرارات الشعب الكردي وممثليه في البرلمان بالاحترام الكامل ولأكثر من عقد من الزمن منذ التغيير ولغاية عام 2014، حين بدأت تتغير سياسة الإقليم وتم تصدير النفط بشكل إنفرادي من قبل الحكومة هناك، فقبل هذا التاريخ كنا نتمتع بواردات النفط ضمن الحصة المقررة والتي كانت توجّه للخدمات والتنمية في كردستان. وهنا نأمل في حصول تغيير جذري لسياسة الحكومة في الإقليم والعمل على التنسيق والتعاون مع الحكومة الإتحادية وإيجاد مشتركات من شأنها خدمة الشعب في كل من الإقليم والعراق.
فما لدينا من ثروة نفطية كان يمكن لها حتى مع انخفاض اسعار النفط أن تستمر كعامل قوة للبلد والشعب، وذلك في حال وجود تنمية تصنيعية في المجال النفطي وضبط معقول للتصرف بعائدات النفط وخضوع الجميع لتشريعات عادلة ومتقدمة، وكل ما ذكرته هو مما نفتقد إليه للأسف حتى الآن.
الثروة المائية هي الأخرى جرى إخراجها من عوامل قوة اقتصاد البلد.
السياسة في هذا المجال، حطمت كل شيء؛ مرة بسوء التخطيط والإهمال، ومرة أخرى بفوضى العلاقات الإقليمية التي لم تعد تربح في كل شيء من أجل تحطيم كل فرص التفاهم والسلام في هذه المنطقة.
وفي الواقع فإن الأزمات الإقتصادية العاصفة يجري استخدامها بوجهين؛ فهي مفيدة في تبرير التلكؤ والعجز عن عمل أي شيء في مجال الخدمات والتنمية وحتى تهيئة التشريعات اللازمة لبعضها، وهي من جانب آخر مضرة ما دامت باتت تدفع بالمشكلات كلها دفعة واحدة إلى السطح لتنفجر بين مختلفين لا يجيدون سوى تنمية الخلافات والصراعات.
المشكلات في العراق من صنع البشر وخلقت من قبل العراقيين، وأعتقد ان على العراقيين تقبل اللوم على هذا الفشل؛ وعندما أقول العراقيين فأنا أقصد القيادة العراقية المتمثلة بالحكومة والقوى السياسية.
إذا ألقينا نظرة على الوضع المالي العراقي الحالي نرى بأنه لدينا مشاكل في الإقتصاد والمال والخدمات والإعمار والصناعة وحتى ضمن الحياة الإجتماعية هناك مشاكل.
ومن خلال خبرتي وكوني بمنصب حكومي ولتجربتي طوال فترة ثلاثة عشرة عاماً الأخيرة بعد إزاحة نظام حزب البعث، أرى أن سبب المشاكل الرئيسة تتمثل بالآتي:
- ضعف حس الإنتماء الوطني.
- حصول القادة السياسيين في الحكومة وخارجها على إمتيازات طائلة يمكن أن توصف بأنها مبالغ فيها، وهذا ما شجع التفرقة المذهبية في المجتمع.
- الإدارة السيئة وإقصاء الأفراد المؤهلين والأمناء والنزيهيين عن أعمالهم والإتيان بغير المؤهلين لتسلم مختلف المناصب في الدولة.
- منح السلطات والصلاحيات للقادة السياسيين (غير المؤهلين) لاتخاذ قرارات الدولة.
- الإبقاء على التشريعات القديمة، وأكثرها إستبدادية تعود لنظام البعث وبعضها يعود لأزمنة أقدم من نظام البعث. وكان يفترض بهذه التشريعات والقوانين أن تهدف لبناء النظام العراقي اللامركزي الجديد.
- إتخاذ القوى الخارجية في عام 2003 قرارين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تحديداً، وكان لهذين القرارين تأثيرات سلبية. الأول هو حل الهيئات والمؤسسات العراقية المرتبطة بشكل رئيس بالأمن والحدود والسيطرة عليها والثاني هو تغيير دور التدخل الدولي من محرر الى محتل.
لقد ذكرت أن المشكلة من صنع البشر، والذي أعنيه أن العراق بلد غني ولا يعاني من أية مشاكل متعلقة بالكوارث الطبيعية، غني بالمياه والنفط والموارد الطبيعية والزراعة، وكثافة سكانية منخفضة وتاريخ عريق.    
في الواقع حصل فشل كبير في استثمار امكانات القوة المالية في وقتها فكيف نتوقع حالياً النجاح في مقاومة تحديات غياب قوة المال؟
النزاع الفاضح تحت قبة البرلمان خلال الأسابيع الأخيرة يكشف جانباً من أزمات الإحباط النفسي للجميع وانعدام فرص الحلول والتفاهم.
البرلمان الذي يفتقد إلى كتلة معارضة صريحة هو الآن ميدان اصطراع لقوى السلطة. وهذا وجه من وجوه الأزمة السياسية العاصفة بالبلد وبالعملية السياسية الجارية فيه منذ 2003.
قد تشهد الأشهر المتبقية على الانتخابات المقبلة مزيدا من هذا الاصطراع، ولكنها في المقابل ستشهد مزيدا من (التفاهم) العابر على التصارع، إنه التفاهم بين جميع الذين كانوا سببا في هذا المصير من أجل إبقاء البلد أمام المصير المنغلق على نفسه حتى ولو إلى حين.
بناءً على كل ما أشرنا إليه سابقاً ومن أجل تحسين مجمل الوضع العراقي نرى الآتي:
- على العراق أن يطور قوة أمنية وطنية موحدة تتضمن الجيش والشرطة .. الخ.
- كون النفط هو المصدر الرئيس للموارد المالية في العراق؛ فمن المهم أن يكون هناك قانون صحيح ومفصل للكاربوهيدرات بهدف حل المشاكل المالية والإقتصادية للبلد مع حكومة إقليم كردستان و المحافظات.
- وضع برنامج حكومي صحيح بعيد عن المركزية في الحكم وتطبيق مبدأ الأقاليم وحل مشاكل المناطق المتنازع عليها.
- العمل على تقليل قوى وامتيازات الشخصيات السياسية والأحزاب، كما يجب تشجيع المهنية وتأهيل أفراد دولة ذوو كفاءة. ومحاربة الفساد وسوء استخدام القوى والإعتماد على إدارة جديدة لكل مجالات الحياة ومحاولة توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وبمستويات معقولة.