بغداد 29 - 2021/8/31
حتى وقت قريب كان الحديث عن أزمات المياه في العراق لا يثير اهتماماً جدياً إلا لقلّة من المختصين أصحاب النظرة المستقبلية؛ فالعراق من البلدان التي تتمتع بثروة مائية جيدة ليس في الماضي فقط بل وحتى في حسابات اليوم، مع أنه يقع في منطقة تعاني معظم بلدانها من شحة مائية أو حالات من انعدام المياه أصلاً وتعتمد تقنيات معقدة ومكلفة لتوفير المياه لسكانها.
ولكي نفهم الأزمات المائية التي يعيشها العراق علينا أولا أن نتذكر بإستمرار مجموعة عوامل تبدو كبديهيات لكن للأسف لا يتم وضعها في نظر الاعتبار عند التعامل مع ملف المياه، سواء سياسياً أو اعلامياً وحتى فنياً في بعض الأحيان. ومن أبرز هذه العوامل:
١- الطبيعة واقصد بها مجموعة العوامل الخارجة عن ارادة البشر من كمية الامطار والثلوج المتساقطة ومواعيدها ودرجات الحرارة والرياح وتركيبة التربة والغطاء الأخضر وحاجة كل نوع من النباتات للمياه.
تجنب أو تجاهل هذه المجموعة من العوامل سواءٌ في الحديث العام أو القرارات الفنية والسياسية يعرضنا لمشكلات كبيرة؛ لأنه يضعنا في حالة من عدم الفهم لأهم المؤثرات على أوضاع المياه في العراق، وهو تنصل عن مسؤولياتنا تجاه الحفاظ على البيئة؛ فثمة تقصير كبير في هذا الموضوع أدّى
الى التأثير على نوعية المياه وكذلك على مستوى حاجة العراق منها مع تزايد التعديات على الانهار وتقلص الغطاء الأخضر بالتزامن مع الارتفاع المستمر لدرجات الحرارة عالمياً وتراجع كميات الامطار واضطراب مواعيدها نتيجة الاختلال البيئي العالمي الذي دفع الاهتمام بالبيئة الى قمة اولويات الحكومات وهو إذا لم يحدث عندنا أيضا فستبقى أزمات المياه في تصاعد مطّرد.
وملف علاقة البيئة بالمياه لا يلقى اهتماماً كبيراً حتى في الاعلام وفي الدوائر المختصة؛ لأن الجميع يرى فيه ملفاً معقداً ويحتاج الى كثير من الخطوات والتشريعات وعوامل أخرى مثل زيادة عدد السكان وتصاعد استهلاك المياه والإخفاق في عملية ترشيد هذا الاستهلاك.
٢- العراق بلد مصب للأنهار التي يعتمد عليها وليس بلد منبع؛ فمعظم مياه نهري دجلة والفرات وروافدهما تقع خارج العراق، وتمر هذه المياه لمسافات طويلة أحياناً داخل بلدان المنبع أو الممر (إيران- تركيا- سوريا)، ولذلك فإن الأوضاع السياسية والعلاقات البينية تؤثر كثيراً على كمية ونوعية المياه التي تصل العراق كما إن استغلال واحتياجات هذه الدول وسياساتها المائية والزراعية وما يتصل منها كذلك بالطاقة تؤثر على كمية ونوعية المياه الواصلة الى العراق ومواعيد ارتفاع وانخفاض مناسيب الأنهار. علاقات العراق بهذه البلدان مرّت خلال العقود الماضية بكثير من المطبّات والمشاكل وأثّر هذا كثيراً على التنسيق بين هذه البلدان في إدارة المياه والتأسيس لعلاقات مائية ثابتة بعيداً عن المؤثرات السياسية اليومية نظراً الى أن هذا الملف إنساني قبل كل شيء.
للأسف لا توجد لحد الآن اتفاقيات كافية وملزمة لتوزيع المياه وادارتها بين الدول المتشاطئة، كما أن المجتمع الدولي يفتقر الى قوانين أو تشريعات تضمن حقوق الدول المتشاطئة/المتشاركة في مياه الأنهر تحدد آليات لتقاسم المياه وطرق وحدود الانتفاع منها. وقد صدر عن الأمم المتحدة ميثاق لتنظيم استغلال المياه غير الملاحية في 17 آب 2014 بعد فترة طويلة من طرح الميثاق للتوقيع من قبل 35 دولة ويشتمل على توصيات عامة وغير ملزمة حتى الآن.
كنا دائماً من دعاة تشكيل لجنة فنية دائمة غير سياسية تؤسس لتفاهمات ثابتة بين الدول الأربع للعمل وفق "خطة تشغيلية" للمياه تأخذ بنظر الاعتبار حاجة وظروف وخطط كل دولة، مع تجنب مصطلحات من نوع "حروب المياه" وكذلك عدم استخدام لغة عدائية ومتشنجة في التعامل مع ملف المياه وفي العلاقة بهذه الدول التي هي بدورها لها مصالح في العراق الذي لو قرر بناء "دبلوماسية مياه" حقيقية لتمكن من حل جميع المشاكل خلال فترة معقولة.
لكن الذي يحدث ومنذ سنوات أننا في العراق نهمل هذا المسار فتتراكم المشاكل ويرتفع منسوب التوتر السياسي والشعبي كلما انخفضت مناسيب المياه ثم نعود لننسى المشكلة مع معاودة ارتفاع المياه أو تراجع الحاجة الموسمية لها غير مبالين بالمسار العام لهذه الأزمة ولا مطلعين على ظروف الدول الثلاث الأخرى.
٣- إدارة المياه
تحتاج ادارة الموارد المائية في العراق ليس فقط الى تحسين نمطها في التحكم إدارة المياه، بل الى تحديث شامل وتغييرات جوهرية تراعي التغييرات المناخية وحاجة دول الجوار والأهم التطورات الحاصلة في إرواء الأراضي الزراعية بما يكفل عدم اهدار المياه الذي تتسبب به الطرق القديمة العشوائية في الري، بينما ما يحدث هو الخفض المستمر في موازنة الموارد المائية. ناهيك عن حاجة العراق الى بناء سدود إضافية لخزن المياه وتوليد الطاقة الكهربائية ومزايا أخرى كثيرة خاصة في منطقة اقليم كردستان وزيادة في أعداد المبازل واستخدام طرق واجهزة حديثة ومختبرات متطورة لمراقبة نوعية المياه وكذلك تبطين السواقي لتقليل التسرب والاهتمام بالغطاء الأخضر لتقليل التبخر وادارة جيدة لمراقبة استهلاك المياه في كل المواقع بالإضافة الى زيادة الاستثمار في قطاع الموارد المائية.
٤- الوعي العام
نتيجة لتراكمات ثقافية واجتماعية قديمة يتم التعامل مع المياه في العراق بدون حرص باعتبارها شيئاً مجانياً متاحاً طوال الوقت؛ فيتصرف الأفراد والمؤسسات مع هذه الثروة باستسهال وبدون تفكير وهذا يؤدي الى هدر كبير في المياه واساءة استخدام وتعديات كبيرة على مصادر المياه، لذلك لا بد من اطلاق ستراتيجية توعوية للتعامل مع ملف المياه، لا أن يقتصر الأمر على حملة آنية قصيرة الأمد، بل على وضع ستراتيجية وعي وطني وإعادة فهمنا لمشكلة المياه وكيفية استخدامها بغية الحد من استهلاكها، تتضمن برامج تربوية دائمة في المدارس وكذلك برامج اعلامية مبتكرة لتوعية المواطنين من مختلف الاعمار والفئات بأهمية ترشيد استهلاك المياه وعدم تلويثها وطرق المحافظة عليها.
إن زيادة السكان وتوسع الحاجات للمياه وتنوع انماط الاستهلاك وكذلك التغييرات البيئية كلها تؤثر سلباً على كمية ونوعية المياه المتوفرة وتسبب ضغطا كبيراً على مصادرها، لذلك نحتاج الى خطة شاملة مدعومة بإرادة سياسية قوية للتعامل مع هذا الملف الوجودي المهم وتشكيل لجنة عليا دائمية باشتراك الوزارات والمؤسسات المعنية مع صلاحيات واسعة للحفاظ على كمية ونوعية المياه في العراق.
الملاحظات
+ يوجد تقصير كبير في الحفاظ على البيئة أدى الى التأثير على نوعية المياه وكذلك على مستوى حاجة العراق منها مع تزايد التجاوزات على الأنهار وتقلص الغطاء الاخضر.
+ ملف علاقة البيئة بالمياه لا يلقى اهتماما كبيراً حتى في الاعلام وفي الدوائر المختصة لأن الجميع يرى فيه ملفاً معقداً ويحتاج لكثير من الخطوات والتشريعات.
+ الأوضاع السياسية والعلاقات البينية تؤثر كثيراً على كمية ونوعية المياه التي تصل العراق.
+ تشكيل لجنة فنية دائمة غير سياسية تؤسس لتفاهمات ثابتة في ملف المياه بين الدول الاربع للعمل وفق "خطة تشغيلية" للمياه تأخذ بنظر الاعتبار حاجة وظروف وخطط كل دولة.
+ تحتاج ادارة الموارد المائية في العراق ليس فقط الى تحسين بل الى تحديث شامل وتغييرات جوهرية تراعي التغييرات المناخية وحاجة دول الجوار والأهم التطورات الحاصلة في إرواء الأراضي الزراعية.
+ لا بد من اطلاق ستراتيجية توعوية للتعامل مع المياه وليس حملة آنية قصيرة الأمد بل وضع ستراتيجية وعي وطني واعادة فهمنا لمشكلة المياه وطريق إستخدامها للحد من إستهلاكها تتضمن برامج تربوية دائمة في المدارس وكذلك برامج اعلامية مبتكرة.