لا تريد بعض الحكومات حول العالم تغيير برامجها السياسية واجنداتها، وهي تمتنع عن الانتباه الى صدمات الطبيعة واجراس الانذار المتلاحقة والكوارث اليومية التي ترسلها الطبيعة لأنها لا تريد خسارة الارباح الشعبية والمالية التي تحصل عليها نتيجة الابقاء على اجنداتها التقليدية التي يكون الانشغال بالبيئة الى جوارها مضيعة للوقت في حسابات الساسة الجشعين المنهمكين بمصالح مصانع وشركات التسلح والاستثمارات العقارية الواسعة وفي المجالات الأخرى دون مراعاة الطبيعة وما تخلفه من كوارث خطيرة، بل يفعلون العكس عبر التمسك بمنهج التوسع في الاستهلاك الفردي وفي الاستثمارات العقارية والسياحية والمواصلات وهي كلها اعتداءات على الطبيعة التي ترد الصاع صاعين للانسان الذي يتجاهل ما تجنيه يداه وحكوماته عليه وعلى الكوكب كله، كما ان الزيادة الكبيرة في السكان والافراط في استخدام موارد الطبيعة بلغ مستويات لا يمكن لكوكبنا مجاراتها.

حتى اذا لم يكن وباء كورونا هو نتاج صناعي متعمد كما تقول الكثير من الاتهامات المتبادلة بين الدول الخاضعة الآن للتحقيق في أصل الفايروس القاتل، فإن الاتهامات كشفت وجود اسراف وتهور في عمليات تصنيع الجراثيم والفايروسات وانتشار مختبرات التصنيع حول العالم واستسهال التلاعب بالطبيعة وهذا يعني ان البشر مهددون دائما بانفلات هذه الكائنات المصنعة في حالة حدوث اي خطأ او اي تماد في التجارب.

سياسة التوسع العمراني والسياحي واستغلال المواد الاولية ومد شبكات الطرق وما يرافقها من شبكات كهرباء وصرف صحي كشفت خلال الحرائق الكارثية في عدة دول (تركيا، استراليا، امريكا، اليونان، قبرص، ايطاليا، لبنان،....) ان الجشع دفع البشر لممارسة اعتداءات هائلة على الطبيعة حتى لم يعد ثمة مكان يمكن توصيفه كمكان ناء بعيد عن استغلال البشر يبقى رئة نقية للارض بلا اكياس وعبوات بلاستيكية ولا مخلفات بشرية وصناعية وبلا دخان سيارات الدفع الرباعي ودخان الطائرات ولا مواد الانشاء الثقيلة التي تحقق احلام الاثرياء بأبنية معلقة في الجبال او في وسط الغابات تخرب الحياة الطبيعية من اجل قضاء وقت قصير بتأثير هوس السياحة او الترف الذي تحول الى مرض يتمثل ببناء بيوت وقصور لا يسكنها احد عمليا لكنها توفر مظهريات الامتلاك السياحي وهي عدوى انتقلت سريعا من القلة الثرية الى كل الطبقة الوسطى.

لا تريد الحكومات تعديل اولوياتها ودفع الاهتمام بالبيئة الى مقدمة اجندة اعمالها لأن ذلك يزعج كبار الرأسماليين كما لا يثير اهتمام الناس البسطاء والبيئة ايضا ليست مادة اعلامية مثيرة تسمح لأي سياسي عابر ان يستعرض عضلاته في وسائل الاعلام لذلك لا تركز عليها وسائل اللغو اليومي التي تتحكم بالرأي العام، هذه الوسائل التي تقدم دائما انصاف المتعلمين الذين لا يمتلكون تخصصا علميا يسمح لهم بالتعمق في اي موضوع لذلك يختارون كل ماهو سطحي وعابر وهذا ما لاينسجم مع الانشغال بالبيئة.

المشاكل البيئية هي اليوم جوهر الازمة المركبة في العالم وفي العراق ايضا، وعندما نقول "مشكلة بيئية" فنحن لا نتحدث عن ترف بل عن دورة كاملة من الازمات، لو اخذنا العراق كمثل، فإن التوسع في انتاج النفط والغاز بدون احتياطات للآثار الطبيعية يعني تراجعا في الغطاء الاخضر وبالتالي ارتفاع في درجات الحرارة وزيادة في الطلب على الكهرباء لاغراض التبريد المنزلي ويعني ايضا زيادة في الحاجة الى المياه واتساع رقعة الصحراء وبالتالي خلل في توفير الغذاء وفي القدرة على توفير مزيد من المساكن النظامية للمواطنين (نتيجة نقص الكهرباء والماء) وهو ما يؤدي بالتالي الى توسع عشوائي في المساكن ثم المزيد من الاعتداء على الطبيعة وتدمير المزيد من الرقعة الخضراء وانهاء شبكات الري الصغيرة التقليدية التي تروي الاراضي منذ عشرات السنين بسبب القطوعات التي يحدثها البناء العشوائي للمساكن.

الساسة والاعلاميون على السواء لا يحبون مناقشة هذه الحلقة التدميرية كتخصص بل يذهبون بسرعة الى المهاترات ومناهج التحريض والتهييج غير المفيدة عبر توجيه الاتهامات السهلة عن نقص المياه دون الاهتمام بالقضية البيئية التي تهدد العراق وجيرانه على السواء، في قطاع الكهرباء تكون الوجهة دائما لمزيد من التعاقدات التي تسبب الفساد وبالتالي المنافع للساسة، وكل هذا ينفع اعلاميا اما ملف المعالجة البيئية فلا يريد احد اشغال نفسه به، وكلما اتسع انشغالنا بالجدل السياسي تراجعت مناسيب المياه في الانهر وتصحرت المزيد من الاراضي وتعمقت الازمة وتجاهلنا حاجة العراق لإدارة حقيقية وحكيمة لملفات المياه والكهرباء.

الاتجاه نحو مواجهة الازمة البيئية يعني تغييرا كبيرا في العقل السياسي والثقافة السياسية حول العالم وكذلك تحولا في الاخلاقيات الفردية وسلوكيات الاستهلاك والانفاق وايقاف الانبهار بالتكنولوجيا وبعروض تجار التجزئة عبر البريد الذين يغرقون المنازل بنفايات الاغلفة ليحاصروا الطبيعة بمنتجات لا تتلف وتستمر بتسميم التربة لعقود من السنين وربما لقرون.

ان البشر بحاجة لجهود كبيرة ووقت طويل لإعادة تنظيم حياتهم وللتوقف عن عملية الاعتداء المستمر على الطبيعة ومحاولة تفهم قوة هذا الكون الرادعة وان تكون هناك حدود لرغبات الاثرياء الذين يظنون ان اموالهم تطلق يدهم في استغلال موارد الطبيعة وتخريبها لتحقيق اهوائهم الشخصية بلا حدود وانهم قادرون على شراء كل ما على الارض والعبث بها في حين يفترض الواقع على الجميع الانسجام مع الطبيعة بدلا من الاستمرار في مواجهتها بتأثير هوس الانسان بالسيطرة والا فإننا نقترب من الكارثة بسرعة جنونية مع زيادة عدد السكان والاستهلاك والمفروض بالحكومات كافة أخذ اجراءات جدية وجذرية بهذا الخصوص.

 

السليمانية

10/8/2021