بقلم الدكتور

عبد اللطيف جمال رشيد

المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية

وزير الموارد المائية السابق

 

كان الحادث المأساوي الذي تعرض له الصحفي والاكاديمي محمد بديوي حادثاً مؤلماً على أكثر من مستوى، ليس لأن الفقيد كان دائما على صلة طيبة معنا فقط وإنما خسارته كمواطن عراقي مخلص وصحفي له الكثير من الخصال الحميدة جاءت لتجعل من الحادث خسارة أحزنتنا جميعا.

وفقدان هذا الصحفي المثابر جاءت أيضا بطابعها المأساوي لتؤكد الكثير من المشاكل المتعلقة بضعف التدريب في مجال تعامل رجال شرطة وجيش مع المدنيين وذلك أثناء تأدية واجباتهم في ظروف أمنية غير سليمة.

إن حالة الاستقرار الأمني لا تتطلب بالتأكيد أي تواجد أمني مسلح كثيف أو بسيط في الشوارع، لكن المشكلة الأمنية التي تواجهها البلاد منذ 2003 وحتى الآن هي التي تفرض هذا التواجد الذي كثيرا ما أدى إلى مشكلات بين الجنود والشرطة وبين المواطنين المدنيين.

لا يمكن ولا يجب تبرير أي حادث عنف ضد أي مدني غير مسلح، فكيف بحالة العنف التي يجري معها استخدام السلاح وتؤدي إلى القتل، وهي جريمة يحاسب عليها القانون ويحاسب كل تلكؤ في تحقيق العدالة ومتابعة تعقب الجناة وتكثيف الجهود لحسم الملفات وعدم تقييد الجرائم والاعتداءات ضد مجهولين. فكل تساهل في هذا المجال يشجع على الجريمة ويسبب الأذى للمجتمع وللسلطات إذا أرادت تحقيق العدالة والأمان للجميع.

وحادثة مصرع الصحفي محمد بديوي كشفت جانبا مؤلما أيضا وهو المتعلق بالكيفية التي تكون عليها ردود الافعال في التعامل مع حدث مأساوي بعد حصوله. فمن طبائع البشر عادةً أن رد الفعل الانساني التلقائي والمباشر هو رد فعل يستنكر الجريمة، أي جريمة، مهما كانت دوافعها وكائنا من يكون مرتكبها أو ضحيتها، لكن من المؤسف أن هذه الطبيعة تراجعت كثيراً وكادت أن تختفي وراء السحابة الثقيلة التي خيمت من أقوال وتصريحات وتصرفات كان من حق بل ومن مسؤولية كل واحد منا أن يفكر بدوافعها ومراميها وأهدافها.

ربما يكون من المألوف أن ينفعل البشر في مثل هذا الظرف ويتكلمون بكلام مشحون بالغضب وحتى بروح الانتقام، لكن الغريب أن يندفع البعض إلى اختلاق أكاذيب، وأي أكاذيب، فقد كان بعض الكذب الذي سمعناه مسموما وكان يريد استثمار حادث مفجع واستغلال دم الضحية من أجل إشباع عطشه للفتنة والدم.

ما معنى أن ينبري أكثر من مسؤول ليقول إن هذه الجريمة ذكرتنا بجرائم كثيرة ارتكبتها وحدة من اللواء الرئاسي في نفس المنطقة بينما الجميع يعرف أن هذا هو أول حادث من نوعه يرتكب وأن أول من أدانه وأول من أكد حتمية القبض على الجاني وتسليمه للعدالة هو مكتب رئيس الجمهورية.

كيف نفسر أن نائبا برلمانيا وبعد مرور وقت طويل على الحادث المؤلم يعود ليظهر في التلفزيون ويتحدث بثقة مصطنعة عما يسميه تكرار الجرائم من قبل نفس القوة ويندفع أكثر ليؤكد بالثقة المصطنعة نفسها إن هذا التكرار دليل واضح على أن هناك حتما حاضنة لعمليات الاغتيال في هذه القوة! هذا الكلام قيل بعد مرور فترة على الحادث كما ذكرنا، وبما يعني أن لحظة الصدمة والانفعال المباشر قد تم عبورها، ومن المفترض أن يرتفع صوت العقل.

وصوت العقل لا يعني التهوين من الحادث وإنما هو أن نضع الجريمة في سياقها الطبيعي حتى نفهم ما حدث وحتى نتمكن من تجاوز حالة هي واحدة من عشرات الحالات التي تكررت ولكن ليس في المكان نفسه وليس من القوة نفسها وإنما في أماكن متفرقة ومن قوى أمنية مختلفة وبمناسبات مختلفة أيضاً.

لم يكن أمرا خطيرا حين جرى وصف اللواء الرئاسي بـ (بيشمركه)، فالبيشمركه جزء من قوات تشرفت بالنضال ضد الدكتاتوية وهي جزء من قوات تحمي العراق الجديد، ولكن الخطير فيما سمعناه وفيما كان يراد بهذا التوصيف هو التركيز على الهوية القومية للجاني من منطلق شوفيني.

اللواء الرئاسي هو خليط من كل القوميات والأديان والمذاهب، وهو لواء نجح في حفظ أمن منطقة تواجده حتى باتت المنطقة مثلاً, من أكثر مناطق العراق ارتفاعا في أسعار البيع والإيجار بفعل الأمان الذي يشعر به جميع السكان في المنطقة، لكن تعمد الإساءة للواء وتعمد التركيز على نعته بهوية قومية معينة وفي ظرف سياسي ملتبس بمشكلات بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية كان تعبيراً عن سعي محموم لاستغلال الحادث والدفع بالمشكلات إلى مزيد من التأزيم الذي لا يخدم إلا أعداء العراق الجديد وأعداء وحدة نسيجه الوطني.

نحتاج فعلا إلى حملات توعية مستمرة وإلى مراقبة شديدة للحالات التي يتم فيها التجاوز على حقوق الإنسان، ولعل أي تساهل مع أي حادث سيكون سببا في تكاثر الحوادث وتشجيع السلوك غير المنضبط، لكن واقع ما رأيناه على شاشات التلفزيون وما سمعناه منها من سياسيين وصحفيين يدعو إلى أن نعمل على أن يكون مثل هؤلاء بمستوى الأحداث وبمستوى المسؤولية المطلوبة من أجل حفظ الحقوق وسيادة القانون ومن أجل منع أية دعوة للكراهية وخلق المزيد من الاحتقان من خلال استغلال حتى مصائب الناس والمتاجرة بمآسيهم.